أطبق حكم الترويكا على تونس كليل كثيف الطبقات لا نجوم فيه ولا قمر. سدّ حكمهم أفقنا بعد أن كان رحبا فسيحا. ورغم مكابرتهم في الإقرار بالفشل، فهو يأبى إلّا أن يجثم كفاجعة على صدورنا. فشلهم مرسوم في وجوه التونسيين مناصرين للترويكا ومعارضين لها. غاب الأمل والإيمان بالمستقبل. لا أحد مطمئّن، لا أحد متفائل. بل فريق الترويكا نفسه أكبر دليل على الفشل. تلهج ألسنتهم بالتفاؤل وتخونهم وجوههم، ترهقُها قَترة.
كانت الثورة أملا، كانت الثورة حلما بالتحرّر. طوبى لهم، على أيديهم صارت الثورة سوق عكاظ ومعبرا للاستبداد. غُدِر الشعب وحُوِّلت وجهته وانصبّ اهتمامهم على بناء الديكتاتوريّة.
هل أُنبأكم بالثورة المضادّة والردّة، إنّها في استشراء الرداءة والجهل وسطوع نجم أصحاب الحذلقات اللغويّة وانحسار صوت العقل والحكمة وغياب الإبداع وتحقير أصحاب الفكر والكفاءة.
ومن لؤم الثورة المضادّة أنها تلبس لبوس الثورة كالذئب في قصة "ليلى والذئب"، وتتكلم باسمها وتنصّب نفسها حَكَمًا على ثوريّة الناس. فتسير بسيرة الديكتاتوريّة مستبدلة فقط المفردات. تحكم الحكم المطلق ولا تحترم القانون باسم الثورة. وتُقصي الناس باسم الثورة وتمارس العنف باسم الثورة. وتلغي التاريخ باسم الثورة. وتنشر الأوهام بين الناس وتعمي البصائر وتدغدغ أبسط غرائز الشعب باسم الثورة.
ولقد اجتمعت في نظامهم كل مقومّات الثورة المضادّة.
هاجس السلطة واقتسام الغنيمة
لقد كان هاجس السلطة واقتسام غنيمة الدولة صادما عند الترويكا. لم يكتفوا بالمناصب الموجودة بل أحدثوا مناصب أخرى وطفقوا يقتسمونها كغنيمة حرب سقطت بين أيدي جند من البربر. لم يتركوا أحدا من الأقربين إلا ودعوه للوليمة. فوزير للعدالة الإنتقاليّة ووزير للإصلاح الإداري ووزير للحوكمة الرشيدة ووزير للعلاقات مع المجلس التأسيسي وكاتب دولة للخارجية مكلف بآسيا وأمريكا وآخر مكلف بأوروبا وثالث بالعالم العربي وافريقيا. و حتى مورو أغرَوْه بمنصب مستشار قانوني للحكومة برتبة وزير لكنّه رفض.
وعندما قالوا لهم اقتسمتم الغنيمة، كابروا وغالطوا وقالوا جمعتنا البرامج. فهل ترى لهم من البرامج شيئا؟.
وعندما هدّدت كراسيهم مبادرة الجبالي انبروا يتّهمون الثورة المضادّة التي ترتعب من انجازاتهم. نعم إنجازاتهم! التي أهمّها معرض لبيع الأغراض الشخصيّة لعائلة بن علي يُفتتح بالشريط الأحمر وكأنّه جسر أو نفق تحت البحر أو مركز للبحوث. كذلك مشروع لتوريد عربات ثلاثيّة العجلات. ودون التوسع في تعداد الإنجازات وهي كثيرة على هذه الشاكلة فلنترك للمتنبي أن يلخصّها :
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ وَ تأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ
إلغاء التاريخ
يطلع علينا الواحد منهم فلا يفوته أن يؤكّد أن كل ما وجدوه هو الخراب وأنّه لم يكن هناك تنمية على الإطلاق وأنّنا عشنا خمسين سنة من التهميش والإقصاء. يقول قوله هذا وهو منحدر من أسرة متواضعة وقد درس في تونس وتخرّج من جامعاتها وهو اليوم يتبوّأ المناصب ويلبس البدل الأنيقة، وما وجدوا إلا الخراب! قامت الثورة وهرب رئيس البلاد ولم ينقطع الماء ولا الكهرباء ولا الاتصالات وما وجدوا إلا الخراب ! مشكلنا في تشغيل أصحاب الشهادات العليا الذين تزخر بهم مدن الداخل والساحل وما وجدوا إلا الخراب ! نخبة كبيرة من المثقفّين والحقوقيّين والشباب الواعي وما وجدوا إلا الخراب ! نموّ ديمغرافي في مستوى نموّ الدول الأوروبية وما وجدوا إلا الخراب! طبيب لكل 812 ساكن وما وجدوا إلا الخراب! 75 سنة معدّل أعمار التونسيّين وما وجدوا إلّا الخراب!
وعمّا قليل سيأتينا من يقول أنّنا كنّا نئِد بناتنا قبل حكمهم وكنّا عراة حفاة نأكل الميتة والدّم.
فما قبلهم الجاهلية والتاريخ يبدأ من حيث بدأ حكمهم.
تخوين المعارضة والتضييق عليها
لقد كان بن علي يتهم معارضيه أنّهم "أعداء نجاح تونس" يستقوُون بالخارج لإلحاق الضرّر ببلادهم.
واليوم هم يتّهمون كل من يعارضهم بعدوّ الثورة وبالمنتمي للثورة المضادّة والردّة.
وكنت في عهد بن علي أقرأ أحيانا جريدة الموقف فأجد جزءا كبيرا منها خُصّص للتشكّي من الاعتداءات على المناضلين. فهذا ضربوه والآخر منعوه من الالتحاق باجتماع وثالث اعتدوا على سيارته. وكنت أشمئّز من لُؤم الديكتاتوريّة التي تسعى لمنع العمل العادي للمعارضة وإعاقتها عن التواصل مع المواطنين بإغراقها في المشاكل التافهة والجزئيّات إلى أن ينفر منها المواطنون من كثرة تبرّمها وشكواها.
ونفس الممارسات تتعرّض لها المعارضة اليوم. فأما نظام بن علي فقد كان يستنكف من تبنّي تلك الممارسات وكان ينسبها، زورا، لمجرمي الحقّ العام. وأمّا النظام الحالي فهو يشجّع من يقوم بها وينعتهم بضمير الثورة وبالشباب الغيور على أهدافها بل ويستقبلهم كبار مسؤولي الدولة.
الرداءة والجهل
وصلت الرداءة والجهل بل الحمق مستويات غير مسبوقة عند فريق السلطة، فقد أكّد عديد الوزراء أنّ نسبة النموّ في 2012 هي %5,5 وذلك باعتماد التحليل التالي : نسبة النموّ في 2011 هي %2- و نسبة النموّ في 2012 هي %3,5 فيجمعون النسبتين ليتحصّلوا على نسبة %5,5.
وهذا عين الجهل. فلنتصوّر أنّ الناتج المحلي في 2010 هو 100 وفي 2011 هو 50 فمعنى هذا أن النّاتج تراجع ب %50 ثم كان ناتج 2012 هو 51 أي نسبة نموّ %2 فحسب وزرائنا حقّقنا تقدمّا ب %52. نعم هذه نظريّة الصعود إلى القاع أو التقدّم إلى الخلف.
كما برز مثال آخر للرّداءة بمناسبة مبادرة الجبالي، إذ أكّد عديد الوزراء ومستشارو الرئيس أنّهم يساندون فكرة التكنقراط للوزارات التقنيّة والفنيّة دون غيرها. نعم، هكذا وكأنّ هناك وزارات غير فنيّة وغير تقنيّة مثل وزارة بيع البخور أو الدردشة؟ والحقيقة، إنّما يكشف هذا أنّ في أذهانهم عندنا وزارات للخطابة والمنظرة والأحاديث الصحفيّة والظهور في البلاتوات.
الإسفاف والتهافت
لقد تدنّى الخطاب لديهم إلى درجة من الإسفاف والتهافت والتضارب تجعل المستمع يشكّ أنّه في يقظة. فتجدهم يقولون الشيء و نقيضه في نفس الحوار وفي بعض الأحيان في نفس الجملة.
فإذا ذكروا أحزاب المعارضة قرّعوها على مواقفها المنتقدة وقالوا تونس في مرحلة انتقال ديمقراطي لا تحتمل معارضة وسلطة وأنّهم دعوا لحكومة توافق منذ الأوّل. فإذا عاب عليهم أحد الإنفراد بالحكم والإمعان في التعيينات الحزبيّة قالوا تونس انتقلت إلى طور الديمقراطيّة وتلك سنن الديمقراطيّة.
بل أغرب من هذا، يقدح مستشارو الرئيس في الحزب الديمقراطي التقدّمي ويتّهمونه بالتواطؤ مع بن علي فإذا سألوهم دليل نضاليّتهم قالوا أنّهم كانوا يكتبون في جريدة الموقف وهي لسان حال الحزب الديمقراطي التقدّمي.
انعدام روح المسؤوليّة وإشاعة فكر المؤامرة
إنهم لا يتصرفون كرجال دولة يقدّرون جسامة مسؤوليّاتهم وواجبهم تجاه الوطن كله. بل لا يطلّ علينا أحد منهم إلا ليشحن الأجواء ويوتّر الأوضاع عوض أن يعمل على الاستقرار والتهدئة. فتراه ينبري يكيل التهم والنعوت لخصومه فهذا من أعداء الثورة وذاك من أزلام التجمع والآخر عميل للمنظمات الصهيونيّة، إلخ.
كلّ من ينتقدهم هو من أعداء الثورة والمعيقين لتحقيق أهدافها. ففي أذهانهم تُحقّق الثورة أهدافها ما بقوا في كراسيهم أمّا الثورة المضادّة فهي كل عمل أو قول يهدّد كراسيهم.
أمّا فشلهم فإذا لم يقم عليه البرهان السّاطع فينكرونه ويقولون أنّ الإعلام يعاديهم. أمّا إذا قام عليه الدّليل فيُرجعونه للمؤامرة.
والحقيقة أن فكرهم سيوسوس لهم في الأخير أنّ العلم وقوانين الاقتصاد والأرقام ما هي إلا مؤامرة عليهم من أزلام النظام السابق والسبسي والمعارضة والموساد.
أتوقّع إذا قرأ هذا المقال بعض منهم سيكون أوّل ما يتبادر لذهنهم "أين كان كاتب المقال قبل 14 جانفي؟" و لكي أشبع فضولهم أجيبهم أنّي كنت في بلدي تونس.
وليد الشريف