تجربة فريدة تلك التي خضناها نحن أعضاء المجلس المدني وبصفة خاصّة أعضاء اللجنة المكلّفة بتقديم اقتراحات للتوطئة والمبادئ العامّة للدستور.
ثلّة من النساء والرجال التونسيّين شبابا وكهولا، لا الإعلام يعرفنا ولا نحن من أعلام السياسة. أملنا كان المساهمة بالاقتراح في رسم معالم مستقبل أجمل لتونس بعد أن تملّكناها من جديد. بعد أن تحرّرت طاقات الفعل وأصبحنا نسبح في محيط من الممكن.
نعم جميلة تلك التجربة لأنّنا خضناها بحماس وإرادة وعيوننا متّقدة بالإيمان بالمستقبل وبقدرتنا على أن نكون من بين الصّانعين لغد أفضل لبلادنا حتى ولو كنّا خارج إطار الأحزاب والمشهد السياسي. فالوطن والمستقبل شأن شخصيّ في ذهن كلّ تونسي بعد أن استرجع مواطنته.
نعم صادقة تلك التجربة لأنّ اقتراحاتنا نبعت من قناعاتنا وتصوراتنا ومن آمالنا وأحلامنا ومن تجاربنا الشخصيّة فكانت أسطع دليل أنّ هذه الثورة مقدمّة لثورة حضاريّة ثقافيّة وأنها ليست ثورة جوع وفقر بل هي متعدّدة شاملة واعدة. لم تُسقط علينا الأفكار ولم تُمرّر الاقتراحات تمريرا ولم تكن لنا نسب تمثيليّة ترجّح فكرة على أخرى تحت وطأة أوزان تصويتيّة. كانت وجاهة الفكرة والمقترح هي التي تفرض نفسها و لو دافع عنها الفرد الواحد. لذلك أقول أن تجربتنا كانت متميّزة.
وبغاية الإسهام في إثراء النقاش الوطني حول مشروع الدستور الجديد، سأستعرض ما وجدته متفردّا وعلى قدر كبير من الأهميّة في مقترحنا للتوطئة والحقوق والحريّات والمبادئ العامة. ولربّما وجد الدّارس للمقترح زوايا أخرى أكثر أهميّة وأجدر بأن يتوقّف عندها.
يتهيكل مقترحنا في ثلاثة أقسام : التوطئة، إعلان الحقوق والحريّات والمبادئ العامة.
التوطئة
بعد البسملة، استُهلّت التوطئة بعبارة "نحن الشعب التونسي". ولقد وجدنا في هذه العبارة رمزيّة كبيرة تدلّل على تملّك الشعب التونسي لدستوره وتُذكّر أنّ هذا الدستور هو لكلّ الشعب وباسمه وليس نتاج توازنات تمثيليّة في المجلس التأسيسي. إنّ إقرار هذه الصيغة من شأنه أن يذكّر نوّاب الشعب أنّهم في خدمة كلّ الشعب وفي خدمة مستقبله فيتسامون عن صفتهم التمثيليّة وتغمر أذهانهم جسامة المسؤوليّة وثقل الأمانة الواجب تأديتها نحو الشعب كلّه ونحو الحاضر والمستقبل.
ثم تتناول التوطئة أهداف وضع الدستور وأُطره وفي مقدّمتها القطع مع الاستبداد والفساد ومواصلة مسيرة الإنعتاق والتحرّر وتوفير مقوّمات العيش المشترك والرّفاهة للأجيال الحاضرة والقادمة في إطار تجذّرنا في هويّتنا الإسلاميّة العربيّة ومحيطنا المغاربي المتوسّطي الإفريقي. وتخلص التوطئة إلى إعلان الشعب التونسي للتصوّرات والرؤى والقيم التي سينبني عليها دستوره : الحرية، العدالة، المساواة، علويّة القانون، التجذّر في الهوية والتعلّق بقيم الإسلام، النظام الجمهوري المدني والتوزيع العادل للثروات، إلخ.
الباب الأوّل :إعلان الحقوق والحريات
جاء الباب الأوّل في شكل إعلان لحقوق وحريّات الإنسان الأساسيّة. حقوق وحريّات تنبع من إنسانيته لا فرق فيها بين فرد وآخر. ولعلّ نصّ الفصل الأوّل أفصح من كل تحليل :
"الفصل الأوّل : الإنسان في ذاته قيمة كونيّة لا تمييز فيها على أيّ أساس كان".
إنّه التركيز على قيمة الإنسان في المطلق وعلى المساواة في هذه القيمة بين كلّ البشر بدون توقّف وتعداد للخاصيّات كاللون والدين والجنس، إلخ. بل هي صياغة عامّة جامعة تُغني عن كل تفصيل تماهيا مع قول الله تعالى في الآية 13 من سورة الحجرات "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
في الفصل الرابع تأكيد على المساواة بين الرّجال والنساء في القانون وأمام القانون "الفصل 4 : المواطنون نساء ورجالا متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون وفي القانون".
في الفصل الخامس ضمان لحقوق المرأة ومكتسباتها مع جعل المكتسبات الواردة في مجلة الأحوال الشخصيّة حدّا أدنى يمكن الرفع منه والبناء على أساسه و لكن لا يمكن النزول دونه "الفصل 5 : حقوق المرأة وحريّاتها الفرديّة والجماعيّة مضمونة ولا يمكن سنّ قوانين تنتقص من مكتسباتها الواردة خاصّة في مجلّة الأحوال الشّخصيّة والمواثيق الدوليّة".
في الفصل السابع إقرار بحريّة الفكر والضمير والمعتقد على أن لا يحُدّ من هذه الحريّة إلاّ قانون حُصِر مجاله في تجريم العنف والتكفير وجميع أشكال التعدّي على حقوق الإنسان "الفصل 7 : لكلّ إنسان الحرية في الفكر والتعبير والمعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينيّة. و لا يُحدّ من هذه الحرية إلا بقانون يجرّم ممارسة العنف والتكفير والتحريض على العنصريّة والتعدّي على حقوق الإنسان".
الفصل التاسع شديد الأهميّة لأنّه يضع حدودا للتفويض الانتخابي فلا يكون هذا التفويض صكّا على بياض من شأنه أن يقوّض حتىّ الأسس التي انبنى عليها. فمهما كانت مسميّاتها، لا يمكن للشرعيّة أن تكون مبررا للمسّ من الحريّات العامة أو الفرديّة أو للتراجع عن النظام الجمهوري أو المبادئ الديمقراطيّة. بل إنّ هذا الفصل يُرسي عقوبة لمن ينتهك هذا المبدأ "الفصل 9 : لا يُمكن لأيّ فردٍ أو مجموعة أن يمُسّ باسم الحرّية أو الشّرعيّة الانتخابية من المبادئ الدّيمقراطيّة، ومن النّظام الجمهوري أو من الحرّيات العامّة و الفرديّة. ويُحْرَم كل منتهك لهذا المبدأ من حقوقه السياسيّة".
الباب الثاني :المبادئ العامّة
خُصّص هذا الباب للمبادئ العامة للدولة ونظامها وسياساتها. يبدأ هذا الباب بالفصل 17 وهو استعادة للفصل الأول الشهير من دستور 59 الذي يحظى بإجماع وطني، مع تصرف طفيف للتأكيد على مدنية الدولة "الفصل 17: تونس دولة مدنيّة حرّة مستقلّة ذات سيادة، الاسلام دينها والعربيّة لغتها والجمهوريّة نظامها".
الفصل 23 متفرّد لأنّه يؤكّد على احتكار الدولة لوسائل الضغط المادّي لتطبيق القانون (استعمال القوّة العامّة لتنفيذ الأحكام، الإيقاف، إلخ). ممّا من شأنه أن يرفع من جريمة استعمال القوّة ولو لتطبيق القانون، من طرف الأشخاص أو الجماعات، إلى خانة إنتهاك مبدإ دستوري. كما يؤكّد الفصل على احترام حقوق الإنسان والتناسب في استعمال القوة "الفصل 23 : تحتكر الدولة وسائل الضغط المادي لتطبيق القانون مع مراعاة مبدأ التناسب واحترام حقوق الإنسان".
الفصل 24 يضع الأهداف العامة للسياسات العموميّة وخطوطها العريضة وإطارها. فهي تهدف لتحقيق التنمية المستدامة على جميع الأصعدة : الاقتصاديّة و الثقافيّة و الاجتماعيّة. والتنمية المستدامة مفهوم يشمل الحاضر والمستقبل ويضمّ المحافظة على حقوق الأجيال القادمة في بيئة سليمة وفي ثروات البلاد وفي وراثة استراتيجيّات تنمويّة طويلة المدى واقتصاد متوازن وبلد أرسى دعائم التطوّر. كما يبيّن الفصل آليّات وأطر هذه التنمية، فهي تكون في كنف منظومة لامركزيّة وعلى أساس التوزيع المنصف للثروات والتضامن بين أفراد الشعب "الفصل 24 : تُضبط السياسات العموميّة بهدف تحقيق التنمية المستدامة على جميع الأصعدة : الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة في كنف منظومة لامركزيّة تكرّس التوزيع المنصف للثروات وترسّخ التضامن بين أفراد الشعب. وتعتبر الثقافة ركيزة أساسيّة من ركائز التنمية والتقدّم ودعم العيش المشترك".
الفصل 35 يعدّد أهمّ القيم التي وجب أن نربّي نشأنا عليها لكي نقطع مع أسباب الاستبداد والفساد والتعدّي على حقوق الإنسان ونُرسي دعائم المجتمع المتطوّر الحرّ. ويؤكّد هذا الفصل على المسؤوليّة المشتركة لجميع مكوّنات الشعب في تحقيق هذا الهدف وعلى دور التدريس والإعلام "الفصل 35 : يعمل الشعب التونسي على تربية نشئه على قيم الحريّة والجمهوريّة والمواطنة والتضامن وعلى حبّ الوطن والعلم والجمال واحترام الإنسان، وعلى النّفور من الاستبداد والتطرّف والإجرام في حقّ الغير. وهذه التربية مسؤوليّة جماعيّة تتقاسمها الدولة والأسرة والإعلام وهياكل المجتمع المدني والمؤسسات التربويّة والدينيّة. وعلى المادّة الإعلاميّة ومناهج التدريس أن تكرّس هذا الهدف".
الفصل 38 يحمل جديدا لمنظومة تحرير النصوص القانونيّة. إذ يقترح اعتماد دليل يضبط الإجراءات الشكليّة لتحرير هذه النصوص. وهي قاعدة اقترحناها لنتجنّب رداءة الصياغة التي صبغت عديد النصوص القانونيّة في بلادنا حتّى أصبحت قراءتها عبئا ثقيلا على النفس فضلا عن غياب الإنسجام في أشكال الصياغة مما ينفّر المواطن من القانون ويغرس في ذهنه أنّه مستعص عليه، موجّه لغيره وأنّه مُعدّ لظلمه والتغرير به "الفصل 38 : يتمّ تحرير النّصوص القانونيّة طبق الإجراءات الشكليّة الواردة في دليل تحرير النّصوص القانونيّة الذي يتمّ اعتماده بقانون"
أمّا الفصل الأخير (عدد 39) فهو من جهة يمنع تعديل فصول الباب الأول (الفصل 1 إلى 16) الخاصّ بالحقوق و الحريّات. ومن جهة أخرى، يحدّد طريقة تأويل فصول الدستور في حالة التباس أو غموض باستبعاد التأويل الذي يحدّ من الحريّات الفرديّة والعامّة "الفصل 39 : الفصول من 1 إلى 16 غير قابلة للتّعديل. ولا يمكن تأويل أي فصل من فصول هذا الدستور بصفة تحدّ من الحريّات الفرديّة أو العامّة".
وليد الشريف (1)
(1) نائب رئيس لجنة التوطئة و المبادئ العامة بالمجلس المدني.