من طرد ذلك المنحطّ الوضيع ؟ من لطم قفاه و صفعه و بصق في وجهه ثم شيّعه وهو يفرّ لا يلوي على شيء بالسباب و اللّعنات و أقذع الشتائم و فاحش القول؟
من داس بلا رحمة على ذلك الصرصار الذي "افتتح اليوم على بركة الله" مئات التظاهرات و آلاف الندوات و الإجتماعات؟
من كنس ذلك العفن الذي شمل برعايته و عطفه الإنسان و الجماد و الطير في السماء و الدوابّ في الأرض و السمك في البحر و الأجنّة في الأرحام و الأفكار في الذهن و الدم في العروق؟
من استأصل ذلك الورم الخبيث الأليم الذي زرع في أجسامنا إحساسا بالغثيان عند سماعنا لعدّة مفردات عربية : "رفع التحديّات"، "التغيير"، "النظرة الإستشرافيّة"، "و سنعمل على"، "إنّ تونس اليوم" و "إيمانا منّا" و جعل حتّى بعض الكلمات المقدسّة تتنزّل من أنفسنا منزل الذكريات الأليمة من مثل "بارك الله فيكم" و "و قل اعملوا..."؟
من أرسل للصمت الأبدي ذلك السوقي المتمرّغ في الجهل الذي كانت الحروف تتدحرج من فمه ممجوجة مدغومة ناتئة غلظة خشنة؟
من أحاط بقاطع الطريق ذاك إلى أن ولّى هاربا مشيّعا بعاره و جبنه؟ ذاك الذي ما سكن زوج لزوجه إلا تحت سامي إشرافه و ما استقرّت نطفة في رحم إلا بإذنه و ما تنفّس صبح و ما تفتّح برعم إلا بأمره.
من محا ذلك النشاز و فسخ اللون البنفسجي الذي أنقض ظهورنا و أتلف خلايا الحلم في أذهاننا؟ ذلك القبيح الذي لم يترك تونسيا يذكر أنّه من تونس إلا و ندى جبينه و لم يترك تونسيا يشاهد قناة بلاده لثوان إلا و أشاح عنها متفوّها بسيل من مستهجن القول.
من أطاح ببن علي؟
سيقولون البطالة و سيقولون الرشوة و الفساد و الظلم و تكميم الأفواه و التفاوت بين الجهات. و سأقول أن أغلب هذا كان من سمات العشريّة الأخيرة من عهد بورقيبة و لم ينجح الشعب في الإطاحة ببورقيبة. و أن كل هذا كان قد استشرى في التسعينات و في العشريّة الأولى للقرن الواحد و العشرين و لم ينجح الشعب في الإطاحة ببن علي إلا في 2011.
و سأقول أنّ كلّ هذا جمع الثائرين القادمين لقتل بن علي و صنع الخنجر و سمّمه. لكنّ، من أمسك بالخنجر و دلف إلى مخدع بن علي ليغمده في صدره هو غير هذا.
من إذا قد أطاح ببن علي؟
إنّها روح العصر تملكّت بشباب تونس و جعلته يأبى السخافة و الجهل و الضجر. و جعلته لا يقيم للوعود وزنا و لا يحفل لتضرّعات ذلك السوقي بل و يجاوبها بكلمة "زل".
إنّها ثقافة تصفّح الإنترنت و أسلوب "يعجبني/لايعجبني" و نسق الإنتقال السريع بين القنوات و البحث عن الإبداع المنطلق المذهل الذي لا يعترف بحدود. إنها ثقافة "القينيول" في القنوات الأجنبيّة و سحقها لكل التابوهات السياسية. إنه عهد تكنولوجيّات التواصل الذي كسر أكبر و أخطر ديكتاتوريّة في التاريخ ألا و هي ديكتاتوريّة الإعلام و المعلومة.
إنها العولمة التي جعلت العالم كله أشبه بمشرب مكتظّ يرتاده كل النّاس لا مكان فيه للسماجة و السخافة و رواية الأكاذيب.
إنه قطار الزمن المسرع المتقدّم ينطلق بلا توان مغيّبا وراءه جذوع الأشجار المتكلّسة ليلتهمها العدم.
إنّه الشباب المرح المنطلق المتحرّر التائق إلى الهواء النقيّ لا يضيع وقته في التصفيق في شعبة و لا ترتضي نفسه الهتاف الأبله ويستنكف من ترديد عبارات الشكر و الولاء و العيش في ظلّ نظام البيعة.
لكأنّي أراه، و قد طوى الليل شطره، و هو خلف شاشة حاسوبه جزعا و قد أسقط في يده من هول ما يراه من شباب تونس. كل حيله منكشفة : الملثّمون و الجهات الأجنبيّة و عدد الضحايا و "الكرطوش غير مبرّر". و التعاليق الساخرة تنهال على رأسه كآلاف المطرقات. و الشعارات المختزلة الأقطع من حدّ السيف لا تعرف المهادنة و لا المساومة تصيب منه المقتل.
لكأنّي أرى أحشاءه قد ارتجفت و حلقه قد جفّ و هو يرى الشباب ينشر جرائمه لكل العالم و يستشعر الزاحفين يحيطون به.
لكأنّي أراه يستنطق "خبرا طيّبا" أو كلمة تشدّ أزره من صاحبته و معاونيه و جدران قصره الذّي يؤويه.
لكأنّي أرى رأسه و قد تملّكته الحمّى و ذهنه و قد أيقن بالنهاية و الضياع. لكأنّي أرى الدوار و الوهن يدبّان في جسده وأرى النعاس و قد جافى عينيه و أرى صدره قد ضاق و قلبه قد انقبض.
لكأنّي أسمع قرقرة أمعائه و هو يقلّب بصره الزائغ لا يجد وليّا و لا نصيرا.
لكأنّي أراه و قد استحال جثّة يسكنها قلب مذعور وأضغاث ذهن مشتّت.
ها هو يسرع في الشوارع و قد ضاقت به الدنيا بعد رحابتها تطوي سيّارته الأرض طيّا و يودّ هو لو تطويه الأرض. ها هو يهرول إلى درج الطائرة و قد استعدّ اللّيل لبسط جناحه على تونس و حمرة الشفق تغمر الفضاء تجسّد دماء بني وطنه و قد قامت على رأسه تسائله بأي ذنب سكبت.
ها هو جوف الطائرة يبتلعه و بابها يوصد مسدلا ستارا أبديا بينه و بين تونس و لمّا يحمل حتّى حفنة من ترابها.
ها هو يضرب كفّا بكفّ و يشتدّ الصداع في رأسه و يكاد يهدّ جمجمته ذلك الدويّ الذي يردّده الكون كله دون أن يفقهه أو يعرف لـتأويله سبيلا فيلتفت لصاحبته ليطالع في عينيها و تطالع في عينيه نشيد الكائنات و الجماد من حولهما "ويكأنّه لا يفلح الظالمون"(1) فيشيح بوجهه ويغرق في العدم.
ها هو يتخبّط لا يعرف أين يولّي وجهه، لم يغني عنه ماله و ما كسب. و لم يغني عنه جميع ما "افتتحه اليوم على بركة الله" و جميع الحناجر التي بحّت بالهتاف له و جميع الأكفّ التي التهبت بالتصفيق له و جميع العقول و الأقلام التي أكلت بثدييها من مطبخه.
ها هو يعمه في أضغاث أفكار ذهنه المشتّت لا يعرف من هو و لماذا هو. و لا يفقه حتى كيف أطاح به أعداؤه.
ها هي الشمس تسبل جفونها غربا حاضنة ربى تونس و ها هو يوغل في اللّيل شرقا مفسحا المجال لصبح جميل.
(1) اقتباس من نصّ الآية القرآنية 82 من سورة القصص.
وليد الشريف