هوية القحط
في مكان ما جنوب الصومال...
كان مكان الاجتماع سريّا كالعادة فالأعداء متربّصون في الدّاخل و الخارج. صبغت مأساويّة الوضع الوجوه التي تخفّى معظمها تحت لحى كثّة تملأ بالقنوط قلوب الحاسدين. بدأ أمير المؤمنين الاجتماع بحمد الله كثيرا و بالصّلاة و السّلام على رسوله و آله و صحبه ثم استرجع (إنّا لله و إنّا إليه راجعون) و في كلمات قليلة ذكّر إخوته قادة "الشّباب المجاهدين" بالمحنة التي تواجهها البلاد من جرّاء الجفاف المزمن و استعرض ردود الفعل الداخليّة و الخارجيّة. فأمّا المسلمون فهم يحاولون النّزوح إلّا من رحم الله ممّن قنع بقدره و أسلم لحكمه و أمّا الكفّار و المشركون ممّن انتظموا في الأمم المتحدة و ما تفرّع عنها من أدوات الكفر و الضلال كالفاو و برنامج الغذاء العالمي فقد أعلنوا أن البلاد في مجاعة و استنفروا غيّهم و شياطينهم لتقديم الإغاثة و إقامة المخيّمات للاّجئين على الثغور (أطراف البلاد) و هم يمتازون غيضا لعدم قدرتهم دخول البلاد لنشر كفرهم بتعلّة المعونة. و عملا بمبدأ الشورى فُتح النّقاش العامّ فرأى البعض السّماح لمنظمّات الإغاثة بدخول البلاد لإنقاذ العباد متعلّلين في ذلك بنقص الوسائل و قلّة الحيلة. بينما ذهب شقّ آخر أنّ في هذا بطرا بنعمة الله و حيادا عن تعاليمه و ضياعا لهيبة دينه و تمريغا لرؤوس المسلمين في التّراب كما أكّد أن الكفرة من الغرب إذا جاؤوا فسيفسدون على الناس دينهم و يمسخون هويتهم و سينشرون غيّهم و كفرهم فلا تقوم لهم قائمة من بعد أبدا.
كان النّقاش محتدما تتخلّله شواهد من القرآن الكريم و من أثر السّلف الصّالح. وحده الأخ "ع" لم ينبس ببنت شفة، كان في بلاء عظيم. هو أصغر "الشّباب المجاهدين"، ناهز الثّالثة و العشرين، و قد شبّ على تعاليمهم و رسخ اعتقاده بقوانينهم و بخيرهم العظيم. كان جالسا و قد افترس قلبه النّدم و الحسرة فقد استقرّ في قناعته أنّه المسؤول عن الحالة. كيف يرضى ربّ العالمين أن يتردّى المسلمون في هذا الحال إذا لم يكونوا قد زاغوا. نعم، و هو المسؤول. هو من أتى شيئا إدّا فأصابت اللّعنة الجميع. ترجع الحادثة إلى بداية الصّيف منذ عامين. كانت نساؤه الأربع حوامل و قد ضاق صدره ذات ليلة بعد العشاء...آه إن الألم يعتصر قلبه...كانت خادمته يافعة غضّة لم يفلح رداؤها الأسود في وأد صوت الشيطان في نفسه... ألا تبّا للشيطان.
انتشله صوت الأمير الجهوري من جحيم تخميناته و هو يعلن القرارات :
• رفض وصف الوضع بالمجاعة كما قال الكفرة و إنّما هو قحط ،لا غير، لابتلاء المسلمين،
• عدم قبول أيّ منظّمة دوليّة غربيّة في البلاد و تجريم تسلُّم المساعدات منها،
• قبول المعونة من المسلمين و حدهم مع التثبت من أنّهم من غير المرتدّين،
• نصح الناس بقبول الابتلاء و الصبر عليه و كثرة الاسترجاع و عدم النزوح من البلاد،
• تنظيم صلاة الاستسقاء.
أنصت الأخ "ع" للقرارات متحمّسا و قرّر أن يكفّر عن ذنبه علّه ينتشل قومه من البلاء فأضمر قتل الخادمة لأنّها أغوته و لا يظنّها تابت أمّا هو فقد تاب.
غير بعيد عن هناك، على الحدود الصوماليّة الكينيّة...
كانت الآنسة "ج" منهمكة في توزيع حصص الطّعام على اللّاجئين الذين لا يكفّ سيلهم عن الزّحف على المخيّم الأقرب من الأرض المفجوعة. كان قلبها ينفطر حزنا و أسى و هي تشاهد الأطفال و قد استحالوا عظاما هشّة يكسوها جلد رقيق يكاد يتمزّق. و كانت بالكاد تمنع دمعها أن ينهمر و هي تطعم طفلا هاشّة الذباب عنهما. هي فتاة أمريكيّة ،في ربيعها الخامس و العشرين، أتمّت لتوّها دراستها الجامعيّة، تنسدل ضفائرها الذهبيّة كسنابل القمح على كتفها الفضي المكشوف. انخرطت منذ زمن في العمل الإنساني بيد أنّها لأول مرّة تشارك في مهمّة كهذه محفوفة بالمخاطر و بعيدة آلاف الكيلومترات عن موطنها. كانت عظيمة النّشاط لشبابها و تحمّسها و كانت قلقة تترقّب الأخبار الآتية من روما حيث يجتمع برنامج الغذاء العالمي : هل سيُوفّق العالم في جمع المعونات؟ هل سيمنح العالم المُتخَم بعضا من فُتاته لهؤلاء المساكين؟ و كيف سيجابهون تعنّت "الشباب المجاهدين"، هل سيرمون بالإعانة من الطّائرات؟ أسئلة كانت تفترس رأسها و هي تسقي طفلا و تبتسم مشجّعة لأمّه. اجتذبتها رنّة المحمول، كانت رسالة من خطيبها ،الأنغولي الأصل، يذكّرها أنّه يحبها و أنّ قلبه يخفق معها و أنّه فخور بها. لم يكن في إمكانها الردّ أو محادثته لأنّ عذاب الأطفال لا يمكنه الانتظار. غير أنّها ،و دون التوقّف عن العمل، سرح خيالها في الأحبّة الذين تركتهم فتذكّرت خطيبها و بشرته كأنها الأبنوس و كيف شجّعها على المهمّة رغم تعلّقه بها و كيف فضحته دموعه في المطار مودّعا. و ذكرت زميلتها راشال كوري و لوعتها حين طالعتها الأخبار ذات يوم كئيب بموتها مدهوسة تحت جرّافة إسرائيليّة في غزة. و كيف كان لعملها الأثر البالغ في قرارها بنَذْر نفسها لمساعدة الإنسان أينما كان. أفاقت فجأة على صوت عويل و انتحاب كالحشرجة. نظرت فرأت أمّا مكبّة على صبي لها أسلم الروح. هرولت إلى الأم و قد اعتصرها الألم، حضنتها و مسحت على وجه الصبي و هي تتلو صلاة تعلّمتها صغيرة. ضاق قلبها فلم تجد بدّا من رفع رأسها للأعلى و لمّا رأت رحابة الكون و صفاء السّماء انثالت من فمها كلمات ترجو الرّحمة للناس أجمعين و أضمرت أن لا تتوقّف عن مساعدة الإنسان و أن تذهب إلى غزّة فور زوال الشدّة هنا.
إلى الشمال الغربي 5000 كلم...
كان الجمع غفيرا فقد دعت إليه عدّة جمعيّات و أحزاب و حركات. لم تكن مثل هذه التظاهرات ممكنة منذ زمن يسير. كانت الوجوه محتقنة و الأوداج منتفخة و العيون تعكس الحماس و التصميم فالموضوع ليس بالهيّن و الأمر خطير. كان الاجتماع للتأكيد على الهويّة العربيّة المسلمة للشعب التونسي و الوقوف سدّا منيعا أمام المشكّكين المنبتّين ممّن باعوا ضمائرهم للغرب و تناسوا قضايا أمّتهم. أجمع المتدخلّون على الخطر المحدق بالهويّة و على شراسة الهجمة التي تتعرّض لها من الخارج و الدّاخل و ذلك أشدّ و أنكى.
كانت الآنسة "ن" من الحاضرين المتحمّسين. كانت شابّة جميلة تنعم بأنوثة و عينين ساحرتين و بشرة بيضاء و شعر فاتح اللون. كانت ترتدي لباسا يستر كل جسمها لكنّها بلا حجاب رغم نشأتها في عائلة متديّنة. هي مقتنعة به غير أنها ما زالت لم تتّخذ القرار. كانت عيناها تلتقي تباعا بعيني الشاب "أ" المعجب بها. و لم تكن هي أقلّ إعجابا منه فهو شاب وسيم على خلق طيّب و هو مثقّف محافظ على الهويّة. بيد أنّها تعرف أنّه لن يجد لها سبيلا فعيبه أنّه متواضع الحال و هو من غير مدينتها. وهي صراحة تعتقد أن جمالها يؤهّلها لزيجة أحسن حسبا و نسبا. و قد كادت أن تصبو له أوّل الأمر لولا أن تداركتها أمّها ثم أرشدها والدها الذي قال لها أنّ جمالها يجعلها تبدو كأنّها إيطاليّة. نعم، كان والدها الذي حنّكته التجارب يعرف حق قدر ابنته في سوق الزّواج.
كانت مسترسلة في خواطرها عندما اجتذبها صوت أجشّ معلنا القرارات :
• العمل على المحافظة على هويّة الشعب التونسي بالتأكيد ليلا نهارا على هويّته العربيّة المسلمة،
• رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني وبعث فرق عمل تجوب القرى النائية و مناطق الظّل للتوعية بضرورة رفض التطبيع،
• إحداث خطّة في صلب كل لجنة لحماية الثورة و في جمعيّات العاطلين عن العمل مهمّتها التأكيد على الهويّة العربيّة الإسلاميّة للشعب التونسي و رفضه كل أشكال التطبيع،
• التأكيد على أن الشعب التونسي ليس إلا جزءا لا يتجزء من الأمّة العربيّة و الإسلاميّة يناصر قضاياها كافّة و لا يدّخر جهدا في التنديد بما يستهدفها من مؤامرات دنيئة.
ارتفع تصفيق و هتاف الجمع و عَلَت الوجوه أمارات النخوة و العزّة. و أمّا الآنسة "ن" فلشدّة وجدها أضمرت أن تلبس الحجاب مساهمة منها في حماية الهويّة.
غير بعيد عن هناك قبل 1300 سنة...
كانت الوجوه عبوسة و العيون زائغة فالخطر الدّاهم لم يبق فسحة للابتسام أو الأمل. ترأّست الجمع ملكة جبال الأوراس ديهيا الملقّبة بالكاهنة. لخّصت الوضع لزعماء قبائل البربر فقالت أنّ قوما أتوا من بعيد للغزو و هم يعرضون شيئا وحيدا للكفّ هو دين غريب يدعى الإسلام. و قالت أنّهم يتكلمون لغة دخيلة. ثم طلبت من القوم ماذا يرون. فأجمع الحاضرون على وجوب المقاومة و ذكّر البعض بمجد و عزّة الأمازيغ ساكني الجبال و بالأبطال الخالدين مثل يوغرطة و ماسينيسا. و قال زعيم قبيلة يفرن أن في الاستسلام لهؤلاء الغزاة ضياع للهويّة و لمجد الأقدمين و أن الأمازيغ جُبلوا على العزّة و الحريّة وسيقاتلون حتى الموت. و ذكّر بمقتل قائد الغزاة الأوّل، منذ سنين، عقبة بن نافع. و قال أنّ قائدهم الآن حسّان بن النعمان، و لو أنّه في جمع كبير أتاه من بلاد الشام، فهو لا بدّ منهزم أمام إصرار البربر.
استحسن الجميع هذا الكلام و أقسموا على القتال للحفاظ على الأرض و العرض.
بعدها بأيّام قتلت الكاهنة شرّ قتلة و أُرسِل رأسها للخليفة عبد الملك بن مروان في دمشق.
قُتلت و ما خطر ببالها قطّ :
• أنّ أحفادها و أحفاد الذي غزاها سيجتمعون بعد حقب من الزمن ليؤكدوا تشبّثهم العميق بهذه الهويّة الوافدة التي حاربتها،
• أنّ الذي غزاها كان قد استبدل هويّته منذ هنيهة و انطلق منتصرا في مشارق الأرض و مغاربها.
* السياق التاريخي واقعي لكن التفاصيل محض خيال.
وليد الشريف
خبير محاسب