إنّ الذي يريد إحباط الثورة هو من يصوّر لنا ليلا نهارا أنّنا على شفا جرف هارّ وأنّنا قاب قوسين أو أدنى من الهلاك و أنّ العالم يحشد الحشود ليداهمنا و أنّ عدوّنا محيط بنا و أنّنا خرفان تساق للذبح و هي لاهية و أنّ الغرب يحسدنا و يتحرّق شوقا لانتزاع هويّتنا و يريد أن يقتلع صوامع جوامعنا و يجتثّ القرآن من صدورنا و يمحي "قفا نبك" و "ليت هندا" من تاريخنا و يحرمنا، إلى الأبد، من بحور الخليل و نحوِ سيباويه و يبدّل عذريّة قيس ليلى، مجونا و كرم حاتم، بخلا و وفاء السموأل، غدرا و يحول بيننا و بين كسكسيّنا العريق ويختطف "بوطبيلة" من أسحار رمضاننا و يسكت مدافع أعيادنا و ينضو عنّا حتى سمرة وجوهنا و يخلع أسماءنا العربيّة. لأنّ الذي يقذف في أذهاننا هذه الوساوس، يجعلنا جزعين مرتابين، تفترسنا الفوبيات و يحيلنا إلى كائنات متخوّفة مرعوبة نتخندق في خندق المقاومة و الصّمود عوض الإنطلاق منتصرين و يلهينا عن البناء، بالدّفاع عن وهم كنزنا الثمين فيصبح كلّ همّنا أن نبحث عن حامي الحمى و الدّين الذي سينقذنا ويهدينا سَواء السبيل. و يستقرَّ الشّعور لدينا بأنّنا مساكين مستهدفون و أنّ عدوّنا ماكر عتيد، ننام و يسهر ليدبر لنا الشر العظيم و أنّ الحلّ في إتّباع من تفطّن لهذا العدوّ المبين. و ننسى أنّ خصْمَنا بيننا بل فينا بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد. و ننسى أنّنا ما ترديْنا في أسفل السافلين إلا لغياب القيم الإنسانيّة عنّا و جشعنا و طمعنا و قلّة ثقافتنا و غياب نبل الأخلاق عنّا و نزقنا و انعدام الوطنيّة في نفوسنا و فساد جلّ نخبتنا و سكوتنا على الضيم القرون الطويلة و خلوِّ نفوسنا من شوق الحريّة. بالله عليكم، ألم يكن تصوير الغرب كعدوٍّ لعبة بن علي و "الإستقواء بالخارج" كلمته و "استقلال قرار تونس" حجّته للتنكيل؟ بربّكم، ألم يجد بن علي في السعوديّة ملجأه الوحيد بعد أن لفظته أوروبا؟ بالله عليكم، ألم يكن سلاحنا الأعظم في ثورتنا، الإنترنت، بيد أمريكا و لم تمنعه عنّا لا ولم تحجب منه شيئا؟
إنّ الذي يريد الالتفاف على الثورة هو من يسعى لإيهامنا أن مآسينا و أحزاننا و فواجعنا سببها التطبيع و سببها الصهيونيّة و الغرب و إسرائيل. فنحسبَ أنّ من ألقى أصحاب الرأي في السجون هو التطبيع و أن من كمّم الأفواه و فرض الإتاوات، كالفتوّة، على النّاس هو الغرب و إسرائيل. و يذهب في ظنّنا أنّ مناطق الظلّ و البطالة و ضَنَكَ العيش و غمَّ الحياة الجاثم علينا و فقرنا المدقع و جهلنا و تهافت مثقّفينا هو من تدبير الغرب الرّجيم. و أنّ من زرع الفتنة بين العروشات هو الغرب، يُوقظها حين يشاء و ينِيمُهَا حين يشاء و نعتقد جازمين أنّ ذلك التّاريخ الطويل من القهر و السَحْل و امتهان الإنسان هو من صنع أمريكا و إسرائيل. و يسكن في ذهننا أنّ الغرب هو الذي أرسل إلينا التجمعيّين و الدستوريّين و الحسينيّين و الحفصيّين...إلخ. و ننسى أنّ عيوبنا هي من أرْدَتْنَا في هذا القرار المكين، فلم نكن نحبّ وطننا و لم نكن نمقت الكذب و النّفاق و التزلّف و المحاباة و كنّا جبناء لا نحضُّ على كرامتنا. و كنّا نحسد كل مُعتدٍ على القانون، أثيم و كنّا نتدافع على فتات موائد المجرمين. و كنّا نندفع للغشّ بشبق عظيم و كانت صدورنا ضيّقة حرِجَة في العمل و لم يكن لرفعة المعاني الإنسانيّة حظّ في نفوسنا. بالله عليكم ، من منكم جاءه زوار الفجر لأنّه أساء أدبه في أمريكا و إسرائيل؟ بربّكم ، ألم نكن نقتات من الكتب التي تسلق بن علي و حاشيته لننفّس بعض غيظنا، و هي كتب صدرت بكل حريّة في أوروبا؟ بحياتكم، أهُوَ التطبيع الذي زاحمكم في لقمة العيش و أنهك بالاحتكار أيّامكم و حشركم في الحافلات مسحوقين؟ أهُوَ الغرب من لغَّمَ طرقاتكم بالحُفَر و جعلها نوافير في وقت المطر و جعل الناموس بطل السّمر؟
إنّ من يريد إطفاء الشعلة المقدسّة التي اتّقدت في عيوننا و خنْق النخوة التي سكنت نفوسنا و نزْع الإيمان بقوّة إرادتنا و بأنّنا نطوِّع القدرَ متى عزمنا و عمِلْنَا و يريد أن يقنعنا أنّنا مساكين منكسرون يُسْرَى بنا إلى حتْفنا في ليل بهيم. و لا يرى فيما تحقّقَ منذ الثورة غير الردّة و يشكّك في كلّ شيء حتّى يكاد يقول أنّ الثورة من تدبير قوى الردّة و يغمض عينيه عن الإنجازات و لا يذكر إلا السلبيّات و يهوِّلَ الهِنات و يضخّم العَثرات كأنّه الغُراب في هذا المثل "إذا كان الغُراب دليلَ قومٍ، مرَّ بهم على جِيَف الكلاب". ثم لا يفتأُ يصوِّر أنّ وراء هذا مؤامرة عظمى و يولول و يندب و نفيق كلّ يوم على صريخه "وا صباحاه" حتىّ أحال فرحنا مأتما و بدّل أملنا يأسا و عوّض ثِقَتنا في المستقبل توجّسا منه و صبغ بمرارة الهزيمة ما كنّا نجد فيه حلاوة الإنتصار و زرع الفُتور أين كان العزم ينبض فينا. إنّ هذا هو الذي يمْقُت الثورة لأنّه يحبّ أن يفتَّ من عضُدنا و يزعزعنا و يعمي بصائرنا و يُدخِل الهلع في نفوسنا. فالحقيقة أنّ شوطا غير هيِّن قد قُطع و مكاسب الثورة لا تخفى كالهيئة العليا للانتخابات و حريّة التعبير و بعث الأحزاب و الجمعيات وبروز الإبداع و الطّاقات التي كانت مهمّشَة، إلخ. و لا أحد يُنكر وفرة السلبيّات و طول المشوار المتبقّي، و هذا يرجع إلى نقص الكفاءة و إلى استماتة عُتَاة العهد البائد في الدّفاع عن أنفسهم فضلا عن تردّي القيَم في مجتمعنا. أمّا أن نفهم أنّه دليل المؤامرة و برهان اليقين على فشل الثورة و على انتصار الردّة فهو الباطل الذي يُراد لنا أن نعتقده.
إنّ الذي ينقلب على الثورة هو من يتحرّق لهفة ليبعث لنا من القبور أمواتا لتحكمنا فيُحيلنا إلى أحياء أموات. و هو من لا يؤمن ببني وطنه و إنّما يُؤمن بعظمة آبائه الأوّلين و يريد أن يعيش، أبدا، كما ألفَاهُم فينتصر الماضي على الإنسان و يُقمَعُ الفردُ مِنّا و يُسحَق لينتصر أجدادنا الغابرون. و يصبح غاية فكرنا حُكمُ استنشاق بخار القِدر في رمضان. و أجَلُّ أحداثنا فتوى إرضاع الكبير أو القبلة بين العازبين.
نعم، هذا من لا يريد لنا خيرا و هو من يريد أن نبقى عبيدا نعيش أبد الدهر بين الحفر و لا يحبّ أن نتعوّد صعود الجبال لأنّه في الحقيقة يرى في هذه الثورة سبيله الوحيد و فرصته العظمى لإرساء عالم لا ثورة فيه.
وليد الشريف
خبير محاسب