أستعير من الكاتب الكبير الدكتور علاء الأسواني عنوان مجموعته القصصية "نيران صديقة" لأضعه على رأس هذا النص الذي أيقظته في نفسي الزميلة كوثر الحكيري بما كتبته في فنون الصريح يوم الأحد الماضي.
كتبت كوثر بمناسبة عودة الممثل الوسيم ظافر العابدين إلى تونس عن فوز إذاعة موزايـيك بسبق محاورته بينما "تركن باقي الإذاعات إلى الهدوء والسكينة". ولا يخفى على عاقل ما في هذه العبارة من وخز وتلميح قد يكون من الضروري الإتيانُ بهما عند الحديث عن الإذاعات العمومية ولكنْ في غير هذا السياق، فَـبَدت العبارةُ رصاصةً طائشةً خرجت في غير موعدها، وكانت نيرانا صديقةً يحقُّ فيها قولُ الشاعر "وظُـلم ذَوي القُـربى أشدُّ مظاظةً عَلى المرءِ مِنْ وقْعِ الحُسامِ المُهَـنَّدِ".
تعرف كوثر الحكيري أكثر من غيرها أن الإذاعة العموميةَ معنيةٌ بالدفاع أكثرَ من الهجوم وأن خطتها الدفاعيةَ تلك قد تكون الورقة الأخيرة في اللحظات الحاسمة من المباراة، فلئن كانت إذاعاتُ القطاعِ الخاص قد أشاعت لغةً هجينةً يتوهَّـمُ الناطقون بها أنها الحداثة والتمدّن، فإن الإذاعات العموميةَ ما تزال تحاول إقناع العامة بأن اللغة العربية قادرة على تحقيق الأرب. ولئن كانت أبواق الليبرالية المتوحّشة تُمطر الناس بقذائف الإشهار مخاطبةً فيهم بطونَهم وما تحتها، فإن أبواق الإذاعات الرسمية ترفع شعار "المغرفة الزايدة ما فيها فايدة".
ولئن كانت المغارةُ ليلةَ القدر قد انفتحت في وجه عامل بسيط وأمطرته بالملايـين في طرفة عين وبحفنة إرساليات قصيرة لا غير، فإن جهدا كبيرا ينتظر الإذاعات الأخرى ومعها المدارس والجامعات والمعلمون والأساتذة والآباء والأمهات والأحزاب والهياكل والمنظمات لإقناع الناس بأن الطريق الحقيقي إلى النجاح لا ينبغي أن يكون بالإرساليات القصيرة وإنما هو بالعلم والمثابرة والعمل.
من السهل عمليا على الصحفي معرفة ما تنوي إذاعة واحدة بقوّة موزاييك الدعائية فعله في عودة السيد ظافر العابدين إلى أرض الوطن، ولكن من الصعب معرفة ما تنوي فعله كل إذاعة على حدة، وبما أنه يصعب عمليا على الإذاعات العمومية أن تجند صحفييها لاستقبال الرجل في القاعة الشرفية بالمطار يوم حلول ركبه الميمون فإنها تفاعلت مع السياق الأصلي للحدث وهو الإعلان عن خروج شريط آخر ديسمبر، أما إذا كان المقصود بالحركة والضوضاء (نقيض الهدوء والسكينة) "اعمل كيف جارك وإلا حول باب دارك" فإنني أعتقد صادقا أن الحل الثاني أفضل وأسلم.
قد تكون عودةُ الممثل الوسيم ظافر العابدين إلى تونس حدثا يستحق الاهتمام حقا، ولكن عودةَ ربُع الشعب التونسي إلى المدارس سيكون الموضوع الصحفي الأكثر أهمية في هذا النصف الثاني من سبتمبر، وسيكون الحديث عن الكراسات والميدعات وجداول الأوقات والطباشير والحافلات والكتب والنقود المزيفة أكثر أهمية في وجدان شعب ينبغي أن يظلّ مؤمنا بالعلم سلاحا أبديا ضدّ الجهل والبهامة والغوغاء التي لا تنفع الناس ولا تمكث في الأرض.
لقد درج الناس على أن يُـرفقوا مدحهم لإذاعة موزايــيك بهجاء الإذاعات العامّة وتوجيه سياط اللوم والتقريع إلى ظهرها الذي أرهقته السنون وقوّسته أعباء المرفق العمومي وتشغيل الشباب، وكأنّ نجاح الأولى لن يكتمل في العيان إلا بهزيمة الثانية وسحقها وفنائها وجرّها جرّا خارج الحلبة، فلا هم يرون فيها تاريخها الحافل المضيء ولا حاضرها المُدجَّج بالتحدّيات. إنهم عن قصد أو عن غير قصد يَـزُجُّون بها في سياق منافسة مغلوطة مضحكة غير متكافئة وبلا معنى، والحالُ أن المشهد برمّته أقربُ ما يكون إلى ساحة "الكوريدو" تُـبرطِعُ فيها الثيرانُ الهائجة