أذكر مقالا عجيبا لا يُـنسى للصحفي الكبير جمال الكرماوي نقيب الصحفيين حاليا كتبه إبان اشتداد الحملة الوطنية لمقاومة الفوانيس والثلاجات المبذّرة للطاقة.
في هذا المقال كتب الكرماوي بحماس عن الاقتصاد في استهلاك "الضوء" موصيا في الختام بعدم الإفراط في هذا الأمر، وعدم التذرّع به لقطع التيار الكهربائي على "الفريقوات" التي تقبع داخلها طاقات مُـعَطّلةٌ تنتظر إطلاق سراحها من حالة الانتظار والموت الوظيفي والجلوس القسري على الربوة.
وحالة الفريقو -لمن لا يعرفها- هي حالة مريرة لأنها عقوبة سرّية وغير شرعية، يعمد إليها بعض المسؤولين لإقصاء معارضيهم والمختلفين معهم من غير المتعودين على التسبيح بحمد البشر، والتغريد في جوقة المنشدين السلطانية التي تحفّّ بالمدير من أول يوم يضع فيه مؤخرته على كرسي الإدارة.
وهي عقوبة قاسية لأنها تبدو للجاهل وعديم الإحساس مكرمةً لا مثيل لها: أنْ تكون موظفا تتمتع بكل ما يخوله لك موقـعُـك الوظيفي من امتيازات وحوافزَ ومكافآت دون أن تُـكلَّفَ بأي شيء !! لكنها لدى من كان ضميرُه حيًّا يقظا شديد المراس شوكةٌ حادَّةٌ تَخِـزُ حنجرتَـه كلما نظر إلى نفسه في المرآة صباحا..
"الفريقو" مكان مظلم بارد ضيق عتيق، يُـحشر فيه من ليس يقوى على أن يقول نعم في كلِّ الأحوال، من يُـواجه بشجاعةٍ بخور الكُهَّـان من سـدنـة المعبد والانتهازيـيـن الكبار الذين يعرفون أكثر من غيرهم كيف يعزفون على كل الأوتار.
وإذا كان وضعُ الموظّف -أيّ موظف- في الثلاجة أمرا غير مقبول في حدّ ذاته وإهدارا للمال العام أشدَّ خطورةً من إهدار أموال الطاقة الكهربائية والمحروقات لأن الطاقة البشريةَ أثمنُ وأندر، فإنّ وضع الصحفي في الثلاجة وتجميدَ أعضائه التي يكتب بها أو يتكلّم موقف إداري يجدّف عكس المنطق وضدَّ التيّار،لأنّ الصحافة تحتاجُ كُـتَّابا حقيقيـين ومذيعين حقيقـيـين يكتبون ذاكرة المستقبل بحبر أوجاعهم لا أشخاصا هم أقرب إلى الحُـواة الذين يُـرقِّصون الأفاعى بقوّة المزمارْ.
والكرماوي يعرف ولا شكّ أنَّ الصحفيَّ الحقيقيَّ هو صوتُ عصره ومرآةُ ضميره، وهو الذي تحتاجه هذه المرحلة الدقيقة التي اختلط فيها الحابل بالنابل، فلا يمكنه أن يظلّ طويلا في المدارج الشرفية مُكْتويا بنيران الصّمت، بينما مكانه الطبيعي في المستطيل الأخضر حيث تُـقـتنصُ الفرصُ الثمينة وتسجل الأهدافُ الحاسمة...إنّ الصحفي الموضوع في الثلاجة قنبلة موقوتة لا يمكن التكهن بحجم ما تحدثه من أضرار يومَ يعنّ لها الانفجارْ...
جمال الدين الكرماوي نقيبُ الصحفيـين حاليا لاعب ماهر قبل أن يكون زميلا، وهو مدعو من موقعه هذا ومن بعد أن وفّق في إغلاق ملف تشغيل الشباب وتمكين منظوريه في النقابة من التحدّث مجانا عبر هواتفهم النقالة، إلى الاطلاع على أحوال المهنة من الداخل وتـفـقد الثلاجات التي يتحيّن البعضُ الفرصةَ لقطع التيار الكهربائي عنها اقتصادا في استهلاك المحروقات وخوفا على طبقة الأوزون من ثاني أكسيد الأفكار الحارقة والمشاريع الحالمة والرؤى المستفِـزَّة الوقّادة.. تلك التي تجعل عروشهُمْ مستويةً على صفيح ساخن وطمأنينتَهم في مهبّ الريح...