لم يكن مسموحا لي بدخول تونس مثل عشرات من الصحفيين الذين كان يكرههم نظام
الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي طوال سنوات حكمه، بل اني تميزت على
باقي الصحفيين والأعلاميين العرب الذين لا يحبهم نظام بن علي، بأن قام هذا
النظام الفاسد بعملية استخباراتية خسيسة ضدي في شهر أغسطس من العام الفائت
2010 في العاصمة الفرنسية باريس بينما كنت أقوم بتسجيل حلقات لبرنامجي
التيلفزيوني "شاهد على العصر" لأبرز معارضي المخلوع
بن علي آنذاك مدير الأمن والمخابرات التونسي الأسبق أحمد بنور الذي كان
المصدر الأساسي لأبرز كتابين صدرا في باريس عن بن علي ونظامه وهما "صديقنا
بن علي" الذي فضح علاقة المخلوع بن علي وشقيقه بمافيا تجارة المخدرات وكيف
قام بن علي بالسطو على نظام الحكم من بورقيبة في تونس، أما الكتاب الثاني
فقد أثار ضجة كبرى واعتبر المسمار الأخير في عرش نظام بن علي وهو كتاب
"الوصية على عرش قرطاج" وكان يتحدث عن نفوذ زوجة بن علي ليلي الطرابلسي
وعائلتها في تونس.
ما إن علم بن علي عبر أجهزة استخباراته أني أقوم بتسجيل حلقات لبرنامج
"شاهد على العصر" مع أحمد بنور بعد مراقبته ومراقبتي خلال فترات سابقة
التقيت فيها مع بنور في باريس للتحضير للحلقات حتى سلط عليّ جهاز
الاستخبارات التونسي الذي كان يعتبر أقوى الأجهزة الاستخباراتية الأجنبية
التي تعمل في فرنسا، وقاموا عبر موظفين تونسيين يعملون في الفندق الذي كنت
أقيم فيه بالسطو على حقائبي وسرقتها من الفندق جهارا نهارا تحت تصوير
الكاميرات، وقد شاهدت بعد ذلك شريط السرقة كاملا في مقر التحقيقات في مكتب
المدعي العام الفرنسي حيث قام بالسرقة نفس الموظفين التوانسة الذين كانوا
يرحبون بي ويودعوني أثناء دخولي وخروجي من الفندق، وقد شاهدت ذلك بعدما
تولت أجهزة الأمن الفرنسية القضية وذهلت للغباء والجرأة التي مارس بها
هؤلاء عملية السرقة.
وقد كتبت في شهر يناير الفائت ثلاث مقالات تفصيلية حول هذا الموضوع عن
"الرئيس الذي سرق حقائبي"، وقد فاجأني الوزير الأول التونسي الباجي قائد
السبسي حينما التقيته في تونس بأن أبلغني أنه تحدث مع وزير الداخلية بشأن
حقائبي التي سرقت في باريس من قبل نظام بن علي، فأبلغه أن وحدة العمليات
القذرة التي نفذت العملية كانت تتبع بن علي شخصيا وقد انفرط عقدها وعقد
رجالها بعد الثورة، وقد علمت أن الضابط الذي كلف بالعملية وبخ بشدة من قبل
بن علي لأن المطلوب كان الاستيلاء على المستندات والأوراق والأشرطة التي
كانوا يعتقدون أنها داخل حقائبي وليس سرقة الحقائب بالكامل وشحنها إلى تونس
وهذا ما حدث.
جبت معظم مدن الشرق والغرب والوسط والجنوب الأوسط بحثا عن أسرار الثورة
التونسية وأسبابها ومن قاموا بها، وأجريت حوارات طويلة مع الناس امتدت
لأيام كنت أستجلي فيها عن تفاصيل ما حدث حتى أدرك أبعاده وأجعل مقارنة
بسيطة بين ما وقع في تونس وما وقع بعدها في مصر ويقع الآن في دول عربية
أخرى، وحرصت أن تكون لقاءاتي مع أناس ينتمون لكافة الأعمار والثقافات
والانتماءات المختلفة، وختمت لقاءاتي بحوار مطول مع الوزير الأول التونسي
لحكومة تسيير الأعمال الباجي قائد السبسي بث مباشرة على قناة الجزيرة ثم
أعاد التليفزيون التونسي بثه عدة مرات.
من الأشياء التي أثارت فضولي في تونس هو أن المقاهي عامرة دائما بالناس في
كل المدن والقرى التي مررت بها بدءا من العاصمة تونس وحتى أبعد قرية ذهبت
إليها وهي تلك التي تقع على بعد أربعين كيلومترا من الحدود التونسية
الجزائرية وتعتبر أعلى قرية في تونس حيث تقع على ارتفاع يزيد على ألف
وأربعمائة متر من سطح البحر، وهي من القرى التي قدمت ستة شهداء خلال أيام
الثورة أشعلوا بدمائهم ولازالوا جذوة التغيير في تونس، ورغم أني كنت قد
رتبت مع شخصين ألتقي بهما هناك ممن كان لهما دور فاعل خلال أيام الثورة إلا
أنه سرعان ما علم معظم أهل القرية بوجودي والتف العشرات حولي يتحدثون
ويقدمون الروايات من زواياها المختلفة عما حدث قبل الإطاحة بالرئيس المخلوع
زين العابدين بن علي في الرابع عشر من يناير الفائت.
وكان من أبرز ما قام به أهل القرية هو أنهم سجلوا بشكل تفصيلي كل أحداث
الثورة عبر الهواتف النقالة والكاميرات البسيطة والتقيت مع مؤرخ الثورة
عندهم الذي جمع كل هذه الملفات ووثقها وكان يرسلها خلال الثورة إلى قناة
الجزيرة والقنوات الفضائية الأخرى التى كانت تغطي أحداث الثورة في تلك
البلاد التي لم يكن يتوقع حتى أهلها أن تتحول إلى واحدة من أهم الثورات
البيضاء التي حدثت في التاريخ، صحيح أن دماء ما يزيد على ثلاثمائة تونسي قد
أريقت حتى تتحرر البلاد من ربقة حكم بن علي والعصابة التي كانت تحيط به،
لكن من قتلهم بن علي خلال سنوات حكمه وشردهم من التونسيين كانوا أكثر
بكثير، ولأن الشعوب لا تتحرر إلا بالدماء فقد كانت دماء الشهداء وأولهم
محمد البوعزيزي هي الثمن الذي حرر به هؤلاء أنفسهم من ذلك النظام الفاسد
المستبد الذي سرق البلاد وشرد العباد طوال ما يزيد على ثلاثة وعشرين عاما.
ذهبت إلى سيدي بوزيد مسقط رأس البوعزيزي، والتقيت مع بعض الشباب الذي
شاركوا من اللحظة الأولى التي حرق فيها البوعزيزي نفسه في إشعال فتيل
الثورة، وكأن الشعلة التي حرقت البوعزيزي كانوا جميعا في انتظارها حتى
يعلنوا أن الخوف قد مات في نفوسهم وأن لحظة التغيير قد حانت وأن الموت أصبح
مطلبا على هذه الحياة المليئة بالذل والفقر والملاحقات.
كان أول ما لفت نظري وهو ما وجدته يتكرر في كل المدن والقرى التي مررت بها
أن المقاهي تعج بالناس، فسألت من التقيت بهم هل هذا يوم إجازة هنا؟ قالوا:
لا ولكنه فقدان العمل الذي حول حياة الناس إلى جلوس على المقاهي بالليل
والنهار، وربما ينقضي اليوم لا يغادر الشخص الكرسي الذي يجلس عليه إلا
ليقضي حاجته ثم يعود، وكان هذا ما وجدته في كل مكان، ولا يوجد شيء في
الحياة أصعب من أن يقضي الإنسان سحابة يومه عالة على الدنيا لا ينتج ولا
يعمل بل يكون عبئا على كل من حوله، انقبضت نفسي لكن هذا لم يمنعني من أبدأ
سلسلة طويلة من الحوارات مع الناس في تونس في محاولة لفهم ما جرى ويجري..
وهذا ما سوف أقدمه في المقال القادم.