تُشكّل المرحلة التأسيسيّة المقبلة موعدا تاريخيّا وجب استغلاله في إرساء مناخ جديد و ذهنيّة جديدة تمكّن من إحداث طفرة تاريخية تحرّرنا من أدران الماضي و تضع دعائم البناء لمستقبل لا يخيّم عليه شبح الديكتاتوريّة و القمع و ينتصر فيه الإنسان و لا يُذّل أيّما كانت مظاهر و تعلّات إذلاله.
و بعيدا عن السيناريوهات القانونيّة لتوزيع السلطات و أعلى من غبار الحديث عن الهويّة يتحتّم الخوض في العمق و العمل على بثّ روح جديدة في التونسي من جهة و التسلح بعقليّة خلاّقة تمكّن من الإبداع و إنتاج الرّائع و استباق المستقبل من جهة أخرى. و سنحاول في هذا الإطار تقديم ثلاثة مقترحات نَعدُّها مادّة جديرة بأن تُدمج في البناء التأسيسي. و سنخصّص مقالا لكلّ مقترح.
يحسب جلّ النّاس أنّ المأساة التي عشناها في زمن بن علي و زمن بورقيبة و لو بدرجة أقلّ قبحا هي الديكتاتوريّة و الظلم و خنق الحريّات و الفساد.
و الحقيقة أن هذا ما هو إلّا تمظهر المأساة و نتاجها أمّا الفاجعة فهي قبولنا بالظلم و الهوان و خنوعنا وسكوتنا على الحيف و الكذب و وقوفنا شهّاد زور بل و اندفاعنا لدوس القوانين و استهانتنا بالوطن و تحوّل جلّ مثقّفينا إلى ماشية تُعلف في زريبة السلطان. و فاجعتنا لا تنحصر في عهد بن علي و بورقيبة بل هي عمّرت قرونا طويلة فلقد كنّا عبيد الحسينيّين و من قبل كنّا عبيد الحفصيّين، إلخ.
لذلك، اليوم وجب التأسيس لِمَا يجعلنا نأبى العودة لذلك الوحل الذي تمرّغنا فيه و لِمَا يزرع فينا روح الإنعتاق و يُبغض لنفوسنا العيش في مرتبة العبوديّة.
و في رأينا أهمّ دعامة في هذا التأسيس هي مراجعة مناهج التعليم. و لئن كان الخوض في تفاصيل هذا الأمر هو من شأن المتخصّصين فإنّه يمكن التعرّض لبعض وجوهه و جوانبه.
الأدب العربي : في قسم من هذه المادة يُدرَّس للتلاميذ النّفاق و الكذب و التملّق و الوصوليّة بغير مسميّاتها بل و تُصبغ عليها هالات الإبداع و العبقريّة و الذّكاء و النّجاح العظيم. فتُقّدم أشعار التملّق في باب المدح على أنّها روائع أدبيّة و يُصوّر أصحابها كمبدعين ناجحين خالدين. فيثني الأستاذ بكلّ افتتان على عبقريّة المتنبّي و هو يؤلّه سيف الدولة في قوله :
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقف كأنك في جفن الرَّدى وهو نائم
تمـر بك الأبطال كَلْمَى هزيمـةً ووجهك وضاحٌ، وثغرُكَ باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى إلى قول قومٍ أنت بالغيب عالم
و يجلّ الأستاذ قريحة أبي العتاهية و هو يبتغي مكافأة من المهدي في قوله :
أتته الخلافة منقادةً إليه تجرر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره لزلزلت الأرض زلزالها
و ينعت الأستاذ بالإبداع النّفاق الفاحش لابن الهانئ و هو يقول للمعزّ لدين الله الفاطمي :
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
و كأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ وكأنّما أنصاركَ الانصارُ
أليست هذه سموما تُبثّ في ذهن النشئ تحشوه بمفاهيم هدّامة خاطئة تجعل من النّفاق إبداعا و من الرشوة مكافأة و جزاءا مستحقّا؟ ألا يشبّ و في ذهنه تقدير و إجلال للمنافقين و المرتشين؟ ألا يصبح هدفه الأعلى التربّح من كلماته و قلمه بالنّفاق و يصبح مثال النّجاح لديه الربح السهل و الحظوة عن طريق التملّق و جعل الكلمة و الفكر سوق بغاء؟
إن مراجعة منهج تدريس هذا القسم من الأدب بتصويب المفاهيم ليصبح أدب "المدح" تملّقا و ليُسلّط الضوء على المآرب الدنيئة و النفاق و الرشوة التي أنتجت مثل هذا الأدب، هي خطوة في اتّجاه تربية النشئ تربية قويمة تبثّ في نفسه النّفور من النّفاق و التملّق و عبادة الأشخاص و تجعله يستنكف من الرشوة و الكذب.
التاريخ العربي : في قسم من هذه المادّة يتم تقديم بعضا من عتاة المجرمين في التّاريخ كأبطال خالدين ننعم إلى الآن بمزاياهم و ندين لهم بشرف ماضينا العظيم. فيُذكر الخلفاء الأمويّون و العباسيّون بكل خير فهم الفاتحون و هم المؤسّسون للدّول و الممالك. ففي عهد الخليفة فلان فُتح شمال أفريقيا و في عهد الخليفة فلان فُتحت الأندلس و في عهد الخليفة علاّن فُتحت السند أو الهند أو بخارى ، إلخ. و أوّل من صكّ العملة هو الخليفة فلان و أمّا الخليفة فلان فهو من بنى القصر العظيم و الآخر من بنى الجامع الكبير، إلخ. و كلّ هذا لا يجانب الصواب و لكنّه منقوص ممّا يجعله خداعا للتلميذ و حشوا بتصوّرات واهمة يكون لها عميق التأثير في ثقافته و ذهنيّته. فدروس التاريخ لا تعرّج على واقع الإنسان في عهود هؤلاء الخلفاء و لا تُبرز جرائمهم في حقّ البشر. و لا تقول أن الرّؤوس كانت تُقطع بأمر من الخليفة لمجرّد مخالفة في الرأي أو شبهة بالطمع في الحكم أو عدم الطّاعة. و لا تقول أن الخليفة كان يبذّر الأموال على المنافقين المتزلفّين و على مجالس اللهو و المجون. و دروس التاريخ لا تعلن بكل وضوح أنّ عهود هؤلاء الخلفاء كانت عهود استبداد و دموية و أنّ الإنسان كان فيها عبدا لا قيمة له يعيش في الهوان و يحسد المنافقين مما جعله إلى الآن لا يهضم مفهوم الدولة و يشعر بأنّه فريستها الطبيعيّة.
فينشأ الطفل و هو يرى في المجرمين أبطالا و يصبح يتطلّع لكلّ من يدغدغ أوهام استرجاع الماضي التليد و ينساق بلا فكر وراء كل من تحدّث عن السيف و الأعداء لكنّه لا يتبيّن استبداده و قمعه و ظلمه و جرائمه في حقّ الإنسان.
أَنْ تُذكر البطولات الحربيّة و يُذكر تاريخ الفتح و محاربة الأعداء فذلك عمل محمود لكنّ وجب في كل درس تسليط الضوء على الإجرام في حقّ الإنسان مهما علا صيت مقترفه في التاريخ و كان مرتبطا بنرجسيّتنا. من قتل الناس بغير حق فهو مجرم مهما كانت بطولاته سواء فتح المشارق و المغارب أو بنى المساجد أو حارب الصليبيّين أو المغول. و بذلك يتشبّع التلميذ بالنفور من الإستبداد و باحتقاره و يستقرّ في أعماقه أن لا شيء يشفع أو يغفر للظّالمين و المتجبّرين.
التربية المدنيّة : يدرس التلميذ ضمن هذه المادّة بعض المفاهيم المتعلّقة بالجمهوريّة كالإنتخاب و الدستور و مجلس النواب و يدرس جانبا من عمل الدولة كالبلديّات و المعتمديّات. و هذا من شأنه أن يساهم في تنمية حسّ المواطنة لديه و في ترسيخ مفهوم الدولة في ذهنه.
و لكي نرفع من جدوى هذه المادّة و تكون من دعائم التربية السليمة على حبّ الوطن و على المواطنة نرى من الأجدى تطعيم هذه الدروس بأمثلة تبرز الأفعال المنافية لحبّ الوطن و المواطنة كالإمتناع عن دفع الضرائب أو الإضرار بالملك العمومي أو السلوكيّات الجهوية أو استغلال المركز الوظيفي للتهرب من القانون. و وجب قدح هذه الأفعال و ذمّ مرتكبيها بما يجعل التلميذ يستنكف منها و يترفّع عنها و ينفر ممّن يقترفها.
و الخلاصة أنّ التأسيس يستوجب الشجاعة للخوض في الذات و تبيّن العلاّت و العيوب دون إشفاق و لا جزع. لن نفلح إذا قنعنا بأن نكون سدنة معبد الماضي عوض أن نكون روّاد المستقبل.
إذا تحلّينا بروح توّاقة للحريّة و الإنعتاق صانعة للمستقبل، فَلْنُؤَسّس : "يعمل الشعب التونسي على تربية نشئه على قيم الجمهوريّة و المواطنة و حبّ الوطن و احترام الإنسان و على النّفور من الإستبداد و التطرّف و الإجرام في حقّ الإنسان. و هذه التربية مسؤوليّة جماعيّة بين الدولة و الأسرة و الإعلام و هياكل المجتمع المدني. و تكون المادّة الإعلاميّة و مناهج التدريس ملائمة لهذا الهدف".
وليد الشريف
خبير محاسب