لم يستفق صاحب «لمحة» صباح أمس من نومه مختارا الرحيل في صمت من فراشه إلى دنيا الخلد رغم إلحاح أبنائه أن ينقلوه في آخر ليلة له في هذه الدنيا إلى المصحة.. سكت قلب محمد قلبي ولكنّ قلمه سيظلّ يروي حديقة الصحافة ويروي لزوّارها ما خطّه على امتداد أكثر من ثلاثين سنة.
رحل صاحب «لمحة» التي كانت بمثابة قطعة السكر التي تحلّي قهوة عشرات الآلاف من قراء الصباح كل صباح.. وتجعلها مرّة لآخرين.. رحل بعد ثلاثة أشهر من احتفاله بعيد ميلاده التاسع والستين وكان مستعدّا للرحيل إذ لم يكفّ منذ سنة عن الترديد لمن يكنّ له الموّدة أنه انتهى.. أذكر عند آخر زياراته لدار الصباح قبل أن يلزمه المرض البيت نهائيا أنه أسرّ لي حرفيا: «محمد قلبي وفى يا حافظ!» حاولت يومها أن أقنعه بعكس ذلك لكنّ قناعته كانت راسخة بأنّ أيامه أضحت معدودات.
وخلال السنوات الطويلة التي عرفته فيها خبرت من ملامحه وسلوكه آلام المخاض اليومي التي تصحب ولادة «لمحة» والطقوس التي كان يهيء بها تلك الولادة ورحلة الشكّ التي كانت تصحب إعداد شهادة الميلاد بعد أن ترفع المولودة الى «حجرة الشورى» حيث يتقرر مصيرها وما يليه من استئناف وتعقيب يصحبه في بعض الأحيان تعديل يقبل به عن مضض حتى لا تلقى مصير أخواتها التي تقبر في المهد.
وخلال تلك الفترة لم يكن محمد قلبي يقرأ لغده حسابا وكان يرفض مجرّد التفكير فيه.. كان يعيش ليومه ومن أجل يومه وأذكر أني دعوته مرّة للتفكير أبعد مما اعتاد التفكير فيه وفكّرته بأن يومه الذي حلّ أمس «قادم» وأنّ عليه أن يفكّر على الأقل في قليل من المال يتركه جانبا ليغطي مراسم جنازته فكانت إجابته مفاجأة إذ قال: «ليس لي مشكل فإن لم يدفنوني فسأنتنها عليهم».
ومن خصال محمد قلبي التي أذكرها فيه أنه لم يكن يعرف للخوف معنى ولم أقرأ في ملامحه ـ رغم أن رأسه كان مطلوبا في فترة ما من المتطرفين ـ ولو قليلا من الخوف، لم يكن يخشى على نفسه ولكنه كان يخشى على أبنائه، وفي إحدى الصباحات جاءني في قمة الاضطراب. كانت في يده ورقة خطّت عليها كلمات مبهمة وممزقة «سوط الطفل... يوم كذا كذا.. شارع 9 أفريل..» انتهى تفكير الرجل إلى أن سوط الطفل يقصد به الإضرار بابنه أنيس الذي كان يزاول تعليمه بالمعهد الفني 9 أفريل، تشتت تفكيره ولم يدر أي طريق يسلك.. تأملت الورقة جيّدا فتذكّرت أن هناك جمعية جديدة تأسست إسمها «صوت الطفل» وأن مقرّها كان بشارع 9 أفريل وأن رئيسها أمرأة ثقافتها فرنسية فأنتهيت أن ما خطّ لقلبي ووضع في رسالة كانت دعوة لندوة صحيفة أربكت صياغتها المرتبكة محمد قلبي.
رحل إذا محمد قلبي لكنه لم يمت في قلوبنا وفي قلوب من عشقوا أسلوبه الساخر وبهلوانية قلمه وعمق معاني كتاباته وغزارتها من زمن «حربوشة» كانت صعبة الابتلاع الى زمن «لمحة» كانت تلمّح أكثر من المطلوب.. رحل قلبي وظلت كتاباته في أذهان قرائه كالنقش على الحجر.
حافظ الغريبي