المحور العقائدي
تتبوأ العقيدة مكانة مركزية ضمن النسق الإسلامي العام، فهي الأساس الذي تنساب منه بقية التصورات والأفكار والأحكام، وعليه كلما صحت العقيدة وسلمت من الشذوذ والانحراف، كلما استقامت صور الحياة واندفعت نحو الأفضل والأكمل.
ولـمّا كان للعقيدة مثل هذا الدور في حياة الإنسان وصلاح الكون، اقتضى ذلك انبناؤها على اليقين الذي لا يرتقي إليه احتمال، ولا يداخله ظن.
وإن عقيدتنا لتستقي أركانها من القرآن الكريم والسنة المتواترة، وتستقي فروعها من ظواهر الكتاب المعضدة بما صح من أحاديث نبوية مجتمعة.
وأركان العقيدة ستة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر. وقد ورد ذكرها جميعاً في آيات محكمات. قال تعالى: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" [البقرة 285 ] وقال أيضا: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون" [ التوبة 51]
1- الإيمان بالله تعالى
إن عقيدة المسلم تقتضي الإيمان والتصديق الجازم بوجود الله، كما أخبر سبحانه وتعالى بذلك، وهو اطمئنان القلب وسكون النفس إلى ذلك بحيث لا يبقى في القلب أدنى مرض وظلمة، ولا في العقل أقل شبهة أو ريبة في وجود الله جل جلاله، فلو ضل الناس جميعا عن الإيمان به، ثبت هو على ذلك الإيمان.
والإيمان بأن الله واحد ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، هو الأول والآخر، عليم حكيم عادل حي قادر سميع بصير، ولا يوصف بما توصف به المخلوقات، وأنه خالق كل شيء ومدبر أمره: "إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" [ الأعراف 54 ] وأن وجوده مباين تمام المباينة للوجود الكوني ذاتا ووضعا.
ونؤمن أن له ذاتا سبحانه، وصفات لذاته، وهو المتصف بكل صفات الكمال، والمنزه عن كل صفات النقص: "فاطر السماوات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [ الشورى 11]
وهو الغني عن الشريك في الذات والصفات، وأن الوحدانية من أخص خصائص الألوهية والربوبية المطلقة. ونؤمن بما وصف به نفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، فليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو المنزه عن المشابهة بخلقه، وعليه فإن ألفاظ النصوص المفيدة للتشبيه لا تفهم على ظواهرها، بل نضعها في إطار التنزيه المطلق. ونؤمن بأنه المتفرد بالحاكمية المطلقة وبالعبادة له دون سواه: "والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب" [الرعد 41 ] "وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" [التوبة 31 ]
2- الإيمان بالملائكة
إلى جانب إيماننا بعالم الشهادة فإننا نؤمن بعالم الغيب، والملائكة أحد عناصر هذا العالم، كما أخبر بذلك القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم، وهم مخلوقات غيبية من نور محضهم الله تعالى للخير والعبادة وتنفيذ أمره القاهر.
وأن الإيمان بالملائكة ليحي في النفس البشرية من المعاني ما يجعلها تستوحي أكثر فأكثر صور الخير والرحمة والعدل أثناء سعيها إلى الاكتمال والقيام بأعباء الأمانة، كما يزكي شعور الأنس والاطمئنان أثناء مجاهدة قوى الشر المختلفة.
3- الإيمان بالكتب
إن إيماننا بالله يقتضي الإيمان بأنه سبحانه قد أنزل على رسله عليهم الصلاة والسلام، كتباً مقدسة لهداية الناس والتشريع لهم، وإن ما بقي منها اليوم بين أيدي أهل الكتاب هي كتب حرفها المفسدون منهم، فلا تعتمد لاختلاط الحق بالباطل فيها، وأن القرآن الكريم جاء مهيمنا عليها وملغيا لاعتبارها، فكان هدى خاتما وحجة قائمة على الناس كافة إلى قيام الساعة.
والقرآن هو كلام الله الأزلي الذي نزل به الروح الأمين على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بألفاظه العربية ومعانيه الحقيقية من الله عز وجل، وهو مصدر هذه الشريعة الأول ومرجع كل أدلتها، والأصل الذي يتفرع عنه كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ينبوع الحكمة وآية الرسالة.
وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه من التحريف والتزييف "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" [ الحجر 9]
4- الإيمان بالرسل
وهو الاعتقاد الجازم بأن الله ـ رأفة بعباده ورحمة بهم ـ قد بعث في كل أمة منهم رسولا، وهم بشر اصطفاهم المولى سبحانه من بين عباده، وخصهم بالوحي، وعصمهم دون سائر الناس من النقائص، وحفهم بالرعاية والعناية الربانية.
والوحي هو تلقي نبأ مقطوع بمصدره الإلهي بغير السنن والطرق المعهودة عند البشر، وإننا نؤمن بجميع رسل الله الذين ورد ذكرهم في القرآن أو لم يرد، دون تفريق بينهم، فنشهد لهم جميعا بالرفعة والعصمة والأمانة والصدق والتبليغ، وإن كنا نقر تفاوت منازلهم عند الله تعالى.
مرتبة الطلب، فلا يقبل عمل إذا لم يكن وراءه هذه العقيدة كدافع للعمل وواقع حسبما تقتضيه هذه العقيدة. فإن اختلت العقيدة أو فسدت أو كانت باطلة أو لم تتضمن أصولها كان العمل فاسدا أو غير مقبول، وبقدر رسوخ معالم العقيدة وأصولها في النفس يكون العمل ثقيلا في ميزان الحساب.
وعليه، فإننا لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وتوابعها مما سبق ذكره، وعمل بمقتضاها وأدى الفرائض برأي أو معصية، إلا أن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال أو عمل لا يحتمل تأويلا غير الكفر.
إن العقيدة في التصور الإسلامي ليست مجرد معرفة تجريدية طبيعتها التأبي عن معالجة الواقع وبحث قضاياه، بل هي نظام كامل متناسق في حياه الإنسان والكون، وهي توحيد الطاقات والقوى والميولات والنوازع في اتجاه الخير والعدل والحق، ولها صور عملية واقعية وأبعاد في حياة الفرد والمجتمع.
وأن النسق العقائدي يستمد موازينه وقيمه ومفاهيمه من إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية والربوبية والعبادة والسيادة على ضمير الإنسان وسلوكه، ويقدم للإنسان رؤية متكاملة ينظر بها إلى الكون والحياة ونهجا شاملا في تصرف الإنسان، سواء في سياسة نفسه فرداً أو مجتمعاً أو في تعامله مع الكون أو في صلته بخالقه، وبذلك يكون التوحيد في التصور الإسلامي هو مسار للطبيعة وكائناتها، وغاية لإبداع الكون، وهدى للحياة، ووسيلة لبناء الحضارة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وليس نظرية ذهنية أو لفظ يتردد على الألسن من دون محتوى أو منهج يحدد العلاقات الكونية والاجتماعية: "ولقد أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب والميزان" [الحديد 25 ]
وعلى هذا الأساس من التوحيد، فنحن لا نفرق بين التوجه لله بالشعائر والتلقي منه في الشرائع، لا نفرق بينهما بوصفها من مقتضيات توحيد الله وإفراده سبحانه بالألوهية والحاكمية، ولا نفرق بينهما لأن الانحراف عن أي منهما يخرج صاحبه من الإيمان الإسلام والإسلام قطعا.
وبذلك، فالتصور الإسلامي يعلن تحرير الإنسان من نوازع الهبوط والارتكاس وظلمات الشرك والجهل والخرافة والخوف، ويعلن تحرير العلاقات الاجتماعية من كل ألوان التسلط ومهاوي الهلاك والسقوط في المظالم ومحق الكرامة الإنسانية "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" [ الأعراف 157 ]
ويقوم التوحيد في فهمنا، على دفع الإنسان إلى منطقة الفعالية والتأثير واقتحام الكون ثقة واطمئنانا، لمنع أي ضرب من ضروب الظلم والاستغلال والتفكك المعيقة لدور الإنسان في الخلافة والعمارة: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" [البقرة 29]
إن العقيدة الإسلامية في فهمنا تقضي على كل العوائق القائمة على تجميد طاقات الإنسان وإهدار إمكانياته وكرامته، وتركز معاني المسؤولية للنهوض بأعباء الأمانة في ممارسة دور الخلافة عبادة لله، وبذلك يجسد الإنسان ضمن هذا التصور معاني الاستخلاف والاقتراب من الله والكدح المستمر: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه" [ الانشقاق6 ]
وهذا التجسيد للاستخلاف يبدأ بتحرير النفس من آثار العبودية لغير الله تعالى، والثورة العامة على عوامل الخوف والسلبية، ويدعو إلى الجهاد في سبيل إحلال العلاقات الاجتماعية والسياسية القائمة على أساس قيم الحرية والخير والعدل.
وإن حملة التوحيد وهم يقدمون للبشرية هذا التصور الجديد، يقيمون معه منهجا كاملا للحياة، يقوم على تكريم الإنسان وعلى إطلاق يديه وعقله وضميره وروحه من كل عبودية، وعلى إطلاق كل طاقاته لينهض بالخلافة عن الله في الأرض، عزيزا كريما كما أراده خالقه، وفي نهوضه بالخلافة وهو حر كريم يملك أن يقدم إضافة حضارية وهو في أوج حريته وفي أوج كرامته وعزته، حتى تتخلص الإنسانية من الضياع والتيه عبر بناء صرح الأمة الإسلامية الموحدة، وإقامة دولة الحق والحرية والقوة والعدل، التي تأخذ بيد الإنسانية نحو طريق العبودية لله وحده، وتنصر المستضعفين في الأرض.