بورقيبة واتفاقيات الحكم الذاتي: المهم... والأهم

كان العرض الذي تقدم به منداس فرانس لمنح تونس استقلالها الذاتي
مقابل وقف المقاومة وبقاء فرنسا في تونس وضمان مصالح الجالية الفرنسية كان ذلك العرض بمثابة القنبلة الموقوتة التي ما لبث ان فجرت الخلافات في صفوف الوطنيين وزعماء الحركة الوطنية.

عودة غرة جوان يوم عودته الى أرض الوطن قادما من فرنسا يوم غرة جوان 1955 القى الزعيم الحبيب بورقيبة في حلق الوادي الخطاب التالي: «هذا المهرجان العظيم الذي ظهرت فيه علامات الفرح والاستبشار على وجوهكم يدل دلالة قطعية على انكم لمستم اننا في هذه المرحلة من مراحل الكفاح قد استرجعنا وطننا من ايدي الاجنبي، وقد كنا رجالا وافرادا بلا وطن، لان الوطن الذي يكون فيه ابناؤه عالة على الغير ليس بوطن. لقد أصبح اليوم هذا البلد لنا واصبحنا اصحاب الدار يلتمس منا الغير التنازل مؤقتا عن بعض حقوق المالك ولقد حث هذا الانقلاب العظيم بعد ان كنا لا يعبأ بنا ولا يقام لنا وزن، وذلك بفضل هذه المرحلة العظيمة من الكفاح الذي لم ينته بعد.
يظهر انكم لمستم اهمية هذه المرحلة واستبشرتم بها كبادرة خير
ومقدمة لاستقلال تام. حل وقتي ان الحلول التي ارتضيناها قد قبلناها بصفة مؤقتة، تمهيدا لمراحل اخرى تنتهي بنا الى ما نصبو اليه من حياة مستقلة كاملة، مع مراعاة الظروف العصرية التي تفرض التعاون مع الغير، لا مع ابناء جنسنا فقط، بل حتى مع الاجنبي، ويمكن لنا ان نتعاون بدورنا مع الغير على ان يكون هذا التعاون تعاونا اختياريا حرا.
وهذا الانتصار العظيم وهذه المرحلة العظيمة من مراحل الحياة يجب ان
نتعظ بها ونعتبر بما تتضمنه من دروس فنحن لم نصل الى هذا الطور العظيم الا بالاتحاد، وبالاتحاد تغلبنا على القوى الغاشمة وكذبنا تلك الأقاويل التي طالما فتـّت في سواعدنا والتي كنت أسمعها حتى من أقرب الناس اليّ والتي تتلخص في كلمة واحدة «الكف لا تعاند المثقب».
الامل محل اليأس ولكننا اثبتنا اننا عندما نتدرع بالصبر، ونصمد امام الصواعق والزوابع، السنين الطوال، مهما كانت التضحيات، فانه يمكننا ان نقيم الدليل على ان «الكف تعاند المثقف» فعلا. إن الاندفاع العظيم والتكتل القوي الذي ظهرت آياته في المرحلة الأخيرة من الكفاح والأساليب الجديدة المتنوعة التي ظهرت في ميدان العمل، وابرزها حركة المجاهدين الابرار انما كانت ثمرة لعمل قديم مبني على خطة حكيمة ترمي الى نزع ما في القلوب من ضعف وخوف ابدلناه ثقة وأمنا.
أبدلنا اليأس املا والضعف قوة والانحلال عزيمة بعد الكفاح الطويل،
فكنا مصداقا للآية الكريمة «إنّ اللـّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما
بأنفسهم» فقد ابدلنا ما بنا من تذبذب وذل بوحدة وعزيمة ونضال، فأصبحنا محل اعتزاز واكرام لا من قبل فرنسا وحدها بل من طرف الدنيا بأسرها هذه العبر نستخلصها من سلم القيم الذي يجعلنا نضحي بالمهم في سبيل الأهم. اننا اذا حافظنا على هذا الموقف امكننا ان نبلغ ما نريد من عزة
وكرامة، ونجدد مجد ابائنا واجدادنا بما فيه من سؤدد وعز وفخار، وأخت وكلمتي بدعوتكم الى ان تستخلصوا من هذا اليوم الأغر المبارك عبرا وذكرى خالدة على مر الدهر.
في ساحة معقل الزعيم
وفي بطحاء معقل الزعيم القى بورقيبة في نفس اليوم الخطاب التالي:
«انه ليوم عظيم هذا اليوم الذي عاشته تونس منذ ان بزغ فجر هذا
النهار المبارك، هذا النهار الذي افتك فيه الشعب التونسي حقه في ان يكون هذا التراب وطنا له لا يشاركه فيه احد.
لقد كنا في زمن مضى نعيش على هامش هذا الأديم، وكان الغير هو
الحاكم الناطق الفاتق، فما هي الا عشرون سنة حتى اعددنا العدة، ونظمنا
صفوفنا، وتكتلنا واصبحنا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وما هي الا محنة او محنتان حتى انقلب الوضع واصبح التونسي هو صاحب البلاد واصبحت الامة التونسية دولة ذات سيادة لا تحد هذه السيادة الا ارادتنا نستعملها بحسب مصالحنا ومقتضيات ظروفنا، فاصبح الاجنبي الذي يريد ان يعيش في هذه البلاد يتفاوض معنا، ويتفاهم معنا ليضمن لنفسه حياة محترمة مزدهرة في مأمن من كل جور وطغيان، اننا كرماء نكرم الضيف ونتعاون مع الغير ونحترم من يحترمنا.
الاتحاد والتكتل اننا نرحب بكل من يريد التعاون الحر معنا والتساكن في هذا التراب، لكن يجب ان نستخلص من هذا النصر العظيم درسا نمشي على ضوئه ونهتدي بوحيه ويكون نبراسنا في بقية مسيرتنا، وهذا الدرس هو ضرورة الاتحاد وتكتل الصفوف واعتبار اننا اخوة كالبنيان المرصوص. وقد تمكنا بفضل هذه الوحدة وهذا التكتل ان نقطع هذا الشوط العظيم ونبلغ النصر وسنتمكن في المستقبل من ان نواصل سيرنا وان نقطع المراحل الأخرى التي مازالت امامنا.
كما ينبغي الا يقتصر هذا الاتحاد على الدستوريين بل ينبغي ان يمتد الى كل المواطنين من مسلمين ويهود، فاننا كلنا اخوة في هذا التراب، فيه نحيا وفيه نموت وفيه ندفن، فاذا اخذنا بهذه القاعدة واتبعنا هذه السنة احترمتنا الدنيا كلها، وبتنا اهلا للمجد العظيم الذي نصبو اليه والذي سوف ندركه طال الزمن ام قصر، وذلك بفضل سواعدنا وجهودنا وتكتلنا ومرونتنا وبهذه المناسبة اريد ان أنبهكم الى اننا الان، وقد اصبحنا اسياد هذه البلاد، يجب علينا ان نعرف كيف نضطلع بمسؤوليتنا حتى نكون اهلا لها، فلا تفتك منا من جديد، يجب علينا ان نعامل ضيوفنا من فرنسيين واجانب معاملة الاخ للاخ، ما داموا يحترمون سيادتنا ويحترمون كياننا وكرامتنا، فهم على الرّحب والسعة ضيوفنا المكرمون المبجلون، وعلى هذا الأساس يمكن ان نزدهر وان نتقدم ونبلغ ما نصبو اليه من عز وكرامة ومجد.

محمد علي الحباشي