يبدو المطبخ السياسي في تونس، في أعلى درجات حرارته قبيل 72 ساعة من الاستحقاق
الانتخابي المقرر ليوم الأحد المقبل.. فالسباق نحو التحالفات محموم، والبحث
عن "قيادات" لحكم المرحلة المقبلة، يثير الكثير من المناقشات والجدل في
الأوساط السياسية والحزبية وصلب الحكومة، بل وعلى هامشها أيضا،
و"المحرّكون" لبعض التحالفات أو التوافقات، في السرّ قبل العلن، كثيرون
ونشيطون.. وبورصة الأسماء والشخصيات، سواء المرشحة لرئاسة الوزراء أو
لرئاسة البلاد، أو حتى لرئاسة المجلس الوطني التأسيسي، لم تستقر على مؤشر
محدّد، فالأمر مفتوح على احتمالات عديدة وإن بدت بعض الأسماء تقفز ضمن رأس
القائمة المرتقبة..
وعلى الرغم من محاولة "البعض" (وهم كثيرون)، تشتيت الأذهان، والتشويش على الصورة التي تتحكم اليوم
في المشهد العام، في مسعى لإرباك ساحة الناخبين، والتشكيك في خيارهم
الاقتراعي، إلا أن الحملة الانتخابية التي تختتم يوم غد، كشفت عن أبرز
القوى التي سينحصر بينها التنافس، سواء على مقاعد المجلس التاسيسي، أو على
ترتيبات الحكم في المرحلة القادمة..
تحالفات.. ونواتات
ليس جديدا القول، إن أحزاب، "التقدمي الديمقراطي" و"حركة التجديد" و"حزب العمل التونسي" وحزب "آفاق تونس"، و"حركة النهضة"، و"التكتل من أجل العمل والحريات"، و"حزب العمال الشيوعي التونسي"، "والمؤتمر من أجل الجمهورية"
و"حزب الإصلاح والتنمية"، يمثلون "قلب الرحى" في المشهد السياسي والحزبي في
تونس، حيث تدور من حولهم أغلب سيناريوهات المرحلة المقبلة..
صحيح أن صندوق الاقتراع، سيحسم في ميزان كل طرف، وسيعطي لكل حزب حجمه وصورته
الحقيقية، لكن القانون الانتخابي الذي "فـُصِّلَ" على مقاس شديد الصرامة،
لا يسمح بأغلبية مريحة
لأي طرف، الأمر الذي سيجعل التحالفات فيما بين الأحزاب هي "القانون" أو
"الآلية" التي ستتحكم في اتجاهات المجلس التأسيسي، وفي تشكيل الحكومة، بل
وفي اختيار رئيس الوزراء ورئيس البلاد.. وهو ما يفسر الحراك الحزبي
المتسارع منذ مدة، لتشكيل "نواتات" تحالفات حزبية، هي اليوم موضوع تجاذبات
بين عدة أطراف، بل هي محور "صراعات"، حول الصيغة والأفق والتوحهات والخيارات..
1 ـ نواة التحالف الأولى، كانت مع "ائتلاف 23 أكتوبر"، الذي ضم حركة النهضة
والمؤتمر من أجل الجمهورية وحركة الوحدة الشعبية وحزب الإصلاح والتنمية،
وهي نواة مرشحة لاستقطابات أخرى، يتوقع أن تطول عدة أحزاب "وسطية"، وقائمات
مستقلة عديدة، بحسب نتائج عملية الاقتراع وطبيعة المحاصصة الانتخابية التي
ستفرزها الانتخابات..
اللافت للنظر في هذا السياق، أنه رغم تنوع وتعدد التركيبة الحزبية والايديولوجية للائتلاف، إلا أن البعض،
يربطه برؤية حركة النهضة وتصورها للأمور، وهو منطق لا يستقيم من زاوية
مفهوم التحالف وميكانيزماته، وطبيعة المكونات المنضوية تحت لوائه..
2 ـ النواة الثانية، توصف بـ"القطب الحداثي"، وهي تضم حركة التجديد والحزب
الديمقراطي التقدمي وحزب العمل التونسي وحزب آفاق تونس، مع وجود اتصالات مع حزب "التكتل"..
وإذا كان "ائتلاف 23 أكتوبر" يتحكم في شيء من التجانس في مستوى التعامل مع
مرحلة ما بعد تشكيل المجلس الوطني التأسيسي، وأفق التحالفات الممكنة لاحقا،
فإن "القطب الحداثي"، تتنازعه رؤيتان: الأولى ترى ضرورة الاصطفاف ضمن
البوتقة التقدمية الديمقراطية، ضدا عن حركة النهضة ومن يتحالف معها، وهو
يقيم ـ بالتالي ـ علاقة تنافر تامة مع "ائتلاف 23 أكتوبر"، بل يقطع مع أي
مجال لتحالفات ممكنة معه..
ورؤية ثانية، يقودها مصطفى بن جعفر، رئيس حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، الذي يحرص
على اعتماد ما يمكن تسميته بـ"التحالفات المتحركة"، التي تستجيب
للتوازنات، وتعتمد التوافق في نوع من "السياسة التجميعية" للمرحلة المقبلة،
التي يرى التكتل أنها الأوضح ـ وربما الأسلم ـ لتونس في سياق الوضع
الانتقالي نحو التأسيسي الديمقراطي..
وفي الحقيقة، تجد هذه الرؤية مساندة واسعة من أحزاب وسطية ومستقلين وشخصيات
سياسية وحقوقية، ممن تعتبر أن التوافق هو الضمانة الأساسية للانتقال
بالبلاد إلى وضع جديد، بعيدا عن المحاصصة الايديولوجية أو الحزبية، خصوصا
وأن رهان المجلس التأسيسي، ليس البرامج والمشاريع المجتمعية ـ كما يريد
البعض أن يقنعنا ـ إنما التأسيس لدستور جديد، وإدارة البلاد في إطار توافقي
لمدة عام، يكون المرور عبرها إلى انتخابات برلمانية ورئاسية ستمثل مجالات
للفرز الحزبي والايديولوجي والفكري لاحقا..
بين الرئاسة.. والرئاسة
هل التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، سيكون ضمن "ائتلاف 23 أكتوبر" أم في سياق "القطب الحداثي"؟ الأمر هنا ـ في تقدير عديد المراقبين ـ مرتبط بمسألتين رئيسيتين:
* رئاسة الوزراء..
* رئاسة البلاد..
ذلك أن اسم السيد مصطفى بن جعفر، حاضر بقوة ضمن القائمة المضيقة لتولي رئاسة
البلاد في المرحلة المقبلة.. فهناك نوع من الاجماع حول بقاء الرجل منذ
الثورة إلى الآن، بعيدا عن التجاذبات الحزبية والايديولوجية، وكانت
تصريحاته تقدمه على أنه "شخصية توافقية" بين اليسار واليمين وجميع المكونات
الحزبية الأخرى لكن "خصومه" من القطب الحداثي، يصفون موقفه بـ"المتأرجح"
بين هذا التحالف وذاك، وهو يراهن في رأيهم ـ على نتائج الانتخابات لتحسس
تحالفاته القادمة..
على الخط الموازي لذلك، يبدو السيد الباجي قائد السبسي، الشخصية الأكثر منافسة
لبن جعفر على قصر قرطاج، رغم بعض التجاذبات "السرية" مع رئيس الدولة السيد
فؤاد المبزع، الذي يبدو أنه
يراهن على أمرين مهمين: استبعاد أي فراغ سياسي بعد انتخابات يوم 23
أكتوبر، وقطع الطريق أمام أعضاء الحكومة المؤقتة على أن يكونوا "رجال"
المرحلة القادمة، وهو ما أشـّر له بتصريحاته المختلفة، عندما أكد مرارا
وتكرارا، بأنه لن يمارس العمل السياسي بعد الاستحقاق الانتخابي..
غير أن قائمة المرشحين المزعومين "للرئاسة"، لا تقف عند السيدين بن جعفر
والباجي، إنما تشمل كذلك إسما تراهن عليه بعض الأطراف السياسية، وهو السيد
عبد الرزاق الكيلاني، الذي يجمع بين الشباب والشخصية التوافقية، والجانب
الحقوقي، والاستقلالية الحزبية، وهي "الخصال" التي ترى بعض الأحزاب ضرورة
توفرها في شخصية الرئيس القادم، الذي لن يتوفر ـ كما هو معلوم ـ على ذات
الصلاحيات الرئاسوية التي توفرت للرئيس المخلوع، وحتى للزعيم الراحل،
الحبيب بورقيبة..
في مقابل ذلك، تفيد بعض التسريبات، أن السيد عياض بن عاشور، رئيس
الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، يمثل أحد الشخصيات المرشحة لدخول قصر
قرطاج، خصوصا بعد الدور التوافقي الكبير الذي اضطلع به مع "الأحزاب
الفاعلة" في الهيئة وخارجها، والذي أثمر "وثيقة المسار الانتقالي" التي
وقّع عليها 11 حزبا..
ويبدو من خلال بعض المعطيات التي توفرت لـ"الصباح"، أن التوافق النهائي لم يتم
بعد، والمشاورات جارية الآن على قدم وساق لإنهاء هذا الموضوع قبل الموعد
الانتخابي.. لكن صفات (الكاريزما) و(الوفاق)، والقدرة على إدارة التجاذبات،
تمثل الشروط الأساسية للرئيس المقبل..
هذا فيما يتعلق، برئاسة البلاد، لكنه رئاسة الوزراء، تتنازعها هي الأخرى،
تجاذبات شديدة بين عدة اسماء أهمها، مصطفى كمال النابلي، محافظ البنك
المركزي الحالي، ومنصور معلـّى، الوزير السابق، بالإضافة إلى اسم النوري
الجويني، وزير التنمية في حكومة الرئيس المخلوع، خصوصا بعد أن شوهد جنبا إلى جنب
مع الباجي قائد السبسي خلال زيارته للولايات المتحدة مؤخرا، وهو الشخصية
المعروفة بهدوئها واستقلاليتها وكفاءتها، فضلا عن كونه ينتمي إلى الجيل
الجديد من الكفاءات التونسية..
لكن معلومات موثوقة، تتحدث عن كون التوافق بين الأحزاب والحكومة المؤقتة
والرئيس فؤاد المبزع على تولي النابلي مسؤولية رئاسة الحكومة خلال المرحلة
المقبلة، بات أمرا شبه محسوم ونهائي، إلا إذا حصلت "مفاجآت" خارج دائرة
الممكن التوافقي الراهن..
ويجري الحديث في السياق ذاته، عن أنه إذا لم يتمكن السيد مصطفى بن جعفر من منصب
رئيس الجمهورية، فسيكون اسمه على قائمة المرشحين للوزارة الأولى، وهذا ما
يفسره البعض بـ"الموقف المتحرك" للتكتل، الذي يحرص على الإبقاء على مساحة
قابلة لتوافقات واسعة بين أغلب الأحزاب "الرئيسية"..
أرقـام.. وأسئلـة..
على أن الرقم الذي يبدو مهيأ للعب دور "المعدّل" سواء لجهة "ائتلاف 23 أكتوبر"،
أو ضد "القطب الحداثي"، هو حزب العمال الشيوعي التونسي، الذي لم يفصح عن
خياراته التحالفية بعد، رغم محاولة البعض ربطه بالسياق النهضوي..
ولا يستبعد أن يكون الحزب، "الخيار المرن" بين هذه التشكيلات التحالفية، خصوصا
وهو يستمد مرونته من طبيعة خطابه غير الاستفزازي (سياسيا)، ولكنه المنحاز
للفئات الاجتماعية المسحوقة، و"المعارض" المعلن لقوى الردة، ومحاولات
الالتفاف على الثورة..
لكن السؤال بل الأسئلة المطروحة اليوم، رُغـْما عن هذه المعطيات، أين
المستقلين من كل هذه التجاذبات، خصوصا بعد أن راهنت رئاسة الحكومة على هذا
"الرقم" في المعادلة الانتخابية؟ هل يمكن أن نتوقع مفاجآت "من النوع
الثقيل"؟ أليس بوسع بعض الأحزاب "الصغيرة" أو "الجديدة" أن "تحرّك"
الطاولة، إذا لم تكن قادرة على قلبها أصلا على التحالفات الحالية؟ لماذا
اختارت حركة النهضة أن تلعب دور الرقم السرّي في ترتيبات الحكم
القادمة في وقت يتوقع عديدون أن تكون الكتلة الأوسع في المجلس التأسيسي؟
وهل يتمسك الحزب الديمقراطي التقدمي بموقفه "المناهض" لحركة النهضة حتى بعد
الانتخابات، أم للسياسة تقلباتها؟ وأين "أحزاب التجمع" التي استمعنا إلى
كثير من "الجعجعة" بشأنها، من دون أن نرى طحينا؟ بل أين هي "الأحزاب
البورقيبية"؟ أم نحن أمام مشهد تتنازعه أحزاب حقيقية (ميدانية)، وأخرى تبدو
جزءا من "ظواهر إعلامية" فحسب؟
أسئلة سيكشف الستار عنها صندوق الاقتراع يوم 23 أكتوبر... فلننتظر..
صالح عطية