خمسون عاما عاشتها البلاد التونسية تخت وصاية دكتاتورية خانقة راهنت في تسيير شؤوننا على الحلول الأمنية والبوليسية حتى استطاعت إنتاج ما يعرف سياسي بالمجتمع البوليسي الذي تفنن في التضييق على الحريات حتى الفكرية منها مما جعل المواطن التونسي ينتقي حتى كلماته وتدخلاته.
تراكمات ومخلفات ورثها الشعب التونسي عن أنظمته المتعاقبة أدت به إلى كبت رهيب انفجر بعد الثورة ليفرز فسيفساء شعبية منقطعة النظير. إعتصامات وإضرابات، هنا وهناك، إنفلات أمني من جنوب البلاد الى شمالها، تناحر سياسي على أشده بين الفرقاء السياسيين، كل هذا تحت شعار الحرية والمحافظة على أهداف الثورة ممن يريد إجهاضها ؟
مشهد سياسي ضبابي داخل هيئة بن عاشور يتسم بحالة الإنشقاقات وإستقالات وبحث عن التوافق المنشود، إعتصامات في القصبة، ركود سياسي وإقتصادي ينذر بالأسوأ، رمضان على الأبواب، التهاب الأسعار وغياب الرقابة، كل هذا يشكل المشهد الدرامتيكي التي تعيشه بلادنا.
كل هذا قد يعزى الى غياب نخب تونسية قادة رأي قادرة على توجيه وترشيد الرأي العام التونسي وتضمن العملية السلسة للإنتقال الديمقراطي الذي يستوجب تناغم وإنسجام مفهومين أساسيين أولهما الأمن الضامن لعملية الإنتقال السلمية والحرية الضامنة للمشاركة الشعبية في وضع أعمدة الدولة المستقبلية.
فالهاجس الأمني هاجس جميع التونسيين إذ بدونه تعم الفوضى الهدامة التي تسعى بعض الأطراف الى إستدعائها عن طريق تعمد مناوشة قوات الأمن لإستفزازها كي ترد الفعل العنيف بصفة أوتوماتكية لا واعية يرى فيها حافظ الأمن أنها عادية ويرى فيها المواطن إستمرار وتكريس لأساليب العهد السابق وكأن قوى الأمن في البلدان الديمقراطية لم يسبق لها أن فكت وفرقت مظاهرة أو إعتصام بالقوة وقنابل الغاز !!!
فالحرية لاتعني تعطيل مصالح الدولة والمواطنين بل تعني المشاركة الواعية وإتباع الأساليب الحضارية في إبلاغ المقترحات والمطالب حتى لا تصبح المعادلة الديمقراطية في تونس على الشاكلة أو المعادلة التالية : إما الأمن والتخلي بذلك على الحريات أو الحرية في ظل غياب الأمن.
فغياب عنصر من هاذين العنصرين قد يربك العملية الإنتقالية ويطيل أمدها وهذا ما لا يتمناه المواطن التونسي الذي يرى في إنتخابات أكتوبر القادم إنطلاقة حقيقية لبلورة المشروع الإصلاحي.
حلمي