لم يكن يتمنّى ان يكون أحدٌ مكانه، فذلك الإنتظار السّهل في صباحه الباكر تحوّل الى نوع من الشدّ العصبي ، كم حاول أن يتجاهل هذا الموعد منذ البارحة و هذا الصباح ، كان ذهابه الى المشرب و حديثه عن شؤون العمل و مزاحه العفوي و المفـتعل مع زملائه و الظهور بمظهر اللاّمبالي كان في الحقيقة كذبة كاد أن يصدقها هو بذاته .عندما عاد الى مكتبه بعد أن شرب قهوته بدأت علامات القلق تظهر عليه فقد أرهقه ضجيج محرّك المكيّف رغم أنّه ضجيج خفيف ، لم يستسغ نوعا من الصّرير الذي ذكّره بصوت بعض الصراصير على نافذته بعد منتصف الليل و حتى الصباح الباكر عندما كان شابّا قبل العشرين ، كان يرهقه هذا ، فلا هو يستطيع النّوم و لا هو يستطيع إبعادها عن نافذته فبمجرّد أن يشعل الأضواء تختفي الصراصير و لا يكاد يطفيء الأضواء و يعود للنّوم حتى تعود من جديد ، كانت حربه الشعواء تنتهي بهزيمة قاسية أمام إصرار الصراصير على تنغيص نومه ليلا كل صيف فكان كل صباح يجدّ في البحث عنها ليقتلها و يتخلّص منها فلا يجدها ، يبحث عنها بين أغصان كرمة العنب المحاذية للنافذة فلا يجد أي أثر لها ، تخامره فكرة إقتلاع الكرمة نهائيا حتىّ يحرم الصراصير من مخبإ آمن ، لكن ثمار العنب التي تكاد تنضج بعد أيام أو أسابيع تمنعه من هذا ثم أن حبّه لثمار العنب و الغضب الشّديد الذي سوف تكون عليه العائلة و خاصة والده يمنعانه أيضا من إقتلاعها...
لذلك إنتفض في مكانه و قرّر التخلّص من صرير المكيف ، بحث عن آله التحكّم فوجدها في مقجر المكتب ، سحبها و ضغط بقوة على الزر الأحمر ليوقف تشغيل محرّك المكيف ، ولما ضغط بهذه الكيفية و هذه القوة شعر أنه فقد الكثير من هدوؤه و تروّيه ، حك رأسه في محاولة لتجاوز قلقه ثم نظر الى ساعة الهاتف الخلويّ ، التاسعة و خمسة و أربعون دقيقة ، تمتم وقال في تفسه تأخرت بعض الوقت ، خمسة عشرة دقيقة هذا لا يهمّ ، ففي عادتها أن لا تخـْلِف موعدا إلاّ لأمر هامّ أو طارىء ، لو كان يعلم أنّها ستتأخر لبقي أكثر في المشرب أو لذهب الى مقرّ النقابة للأطلاع على المستجدّات و المراسلات إنْ وٌجدتْ ، فمنذ أيام لم يفعل هذا ، لعلّ الخلافات التي ظهرت أخيرا بين أعضاء النقابة نفّره من زيارة المكتب ، بعض النّقابيين تظرّروا من هروب الدكتاتور و فقدوا بعض الإمتيازات الإدارية و المادية فأصبحوا يزايدون و يختلقون مطالب مهنية للتغطية على الملفات القديمة... ضحك في تهكّم و قال في نفسه "لا يهمّ ، المُرابي يستطيع التأقلم مع كل الأوضاع و المستجدات " . قد يكون تفكيره في هذا الموضوع و استيائه من الشّطط في المطالب النّـقابية في هذا الظرف الحرج الذي تعيشه البلاد و الرّيبة في حسن نوايا بعض النقابيين خـفّــف عليه حدّة الإنتظار و أخرجه نوعا مّا من الشدّ العصبي الذي أرهقه ، لكنّ مع السّاعة العاشرة و خمسة عشرة دقيقة بدأ يفقد صبره شيئا فشيئا ، قام من مكتبه في حركة منفعلة و قرّر الذهاب للمشرب لتناول قهوته الثانية و قد كان في عادته الإكتفاء بقهوة واحدة و كأسا من الشاي في الظهيرة ، فإذا أعاد شرب فنجان آخر من القهوة فهذا يعني أنه يعيش ضغطا معينا و يريد إخفاءه بإرتشاف قهوة أو ثرثرة و حديث قد يكون لا معنى له ، عندما وصل الى المشرب طلب قهوته و جلس جانبا في أركان المشرب حتى لا يتورّط في حديث و يكون مجبرا على إتمامه مجاملة خاصّة وأنّه ليس في حاجة للحديث .
عندما وضع النّادل القهوة على الطاولة بعد أن مسح الطاولة و إستبدل مطفأة السّجائر و بعد أن أصرّ أن يسلّمه قارورة ماء الزّهر ليضع بنفسه القدر الذي يريد كحركة ودّ منه و استثناء على باقي الزبائن ، رنّ الهاتف رنّـته الأولى نظر الى السّاعة الحائطية للمشرب قبل أن يـردّ على المكالمة فرأى أنها السّاعة العاشرة و النصف تماما ، رفع الهاتف و همّ بفتح الزرّ للإستماع ثم تذكّر أنه لا يجب أن يبقى بالمشرب فزملاءه قد يشاركونه الطاولة فيحرجونه بسماعهم أخبارا عن شؤونه الخاصّة جداّ ثم أن هناك بعض الفضوليين الذين لا همّ لهم إلا التنصّت و جمع الأخبار . أشار للنّادل بيده أنْ يأخذ فنجان القهوة و يحـتـفـظْ به على آلة عصْـر القهوة حتّى تحافظ على دفئها ثم قام من مكانه قاصدا مكانا آخر إعتاد الجلوس فيه كلّما عنّ له أن يهاتفها ، مكان يريحه بخضرته و إتقان توظيب و زرع وروده التي توزّعت بشكل جميل رغم ضيق المساحة . عندما خرج مباشرة من المشرب ظغط على زرّ فتح الهاتف لما سمع صوتها نسي العالم الذي حوله و كأنه لم يستمع لصوتها منذ أمد طويل رغم أنها البارحة ليلا كانت تكلّمه .
كعادته ، من خلال نبرات صوتها الصباحي و رخامته او بحّـته الخـفيفة و حروفها السائبة المتـراخية و المتـواترة حينا أو المتقـطّعة و المتلـعثمة حينا آخر أومن خلال كلماتها المنقبضة و الجادّة و الجافّة ، تصبح كتابا مفتوحا أمامه و اضح الحروف جليّ المعاني ، سواد على بياض ، هي كما هي ، واضحة كخيوط الشمس الصّباحية ، فمن خلال صوتها يعرف إن كانت سعيدة ، قلقلة ، متعبة ، تناولت قهوتها الصباحية أم لا ، أفطرت أو هي تعدّه ، أعدت نفسها للخروج أم لا زالت تضع أحمر الشفاه وصباغ الأظاقر ... لما كلّمته و سمع صوتها النّاعم المرهف المنغّم فهم أنّها منشرحة و سعيدة ، و أن مزاجها الا تشوبه شائبة و أنّها صافية كزجاج الكريستال . إطمئنّ لهذه التحية الصباحية الرقيقة و العذبة لكنه إحتفـظ بشيء من وقاره و رصانته كان يودّ أن تقول له قبل كل شيء " ماهو الخبر الذي سوف تزفّه ؟ " لكنه تراجع حتى يقتنص الفرصة المنـا سبة ليسألها . حدثته عن الطقس المتقلّب و عن حالة البحر و أمواجه العاتية هذا الصباح و أنها تقف شبه وحيدة على حافة الشاطىء الرّملي تراقب بعض المراكب الراسية التي هجرها البحّارة اليوم نظرا لتقلب الطّقس و خطورة صيد الأسماك في مثل هذه الحالة و عن تصادم الأمواج و أشعّة الشمس التي تتسلّل بين السّحاب بالأمواج العاتية و عن زبد البحر الذي يمسح رمال الشاطيء بلطف كما تتحسّس الأم شعر رأس رضيعها و عن الهواء البحري البارد و النقي و الذي يشعرها أنها سيّدة هذا الشاطىء و عن حركة أمواج البحر و انعكاس أشعة الشمس الخفيفة و انكسارها على سطح البحر و الذي يظهركمشهد إحتفالي فرحا بقدوم أميرة الشاطيء و حارسة حدود البحر الأمينة . هاله أن تقف وحيدة على شاطىء البحر في مكان يتخيّله بعيدا و خال من النّاس و ما قد يمثله هذا من خطر عليها فهو يتوجّس الخوف عليها خاصة و أنه لا يعرف المكان جيّدا و ليست له فكرة واضحة عن سكان مدينتها ما عدى ما سمعه من مدح و تفاخر أتى على لسانها أو لسان بعض أبناء المدينة ذاتها من أصدقائه ، عندما تخيّل المكان و قـفْره سألها بكل جدّ إن كانت مطمطئنة الى هذا المكان الخالي و ألْمح لها بضرورة مغادرة المكان خوفا عليها لعلمه الأكيد أنها تنسى الخوف و المخاطر أمام سحر جمال البحر و انبهارها به حتّى أنّ هذا يكاد يسبّب شعورا بالغيرة لديه و الأنقباض الخفيّ المكتوم . لما فهمت تلميحه بضرورة مغادرة المكان و الأكتفاء بما أمضته من الوقت على شاطىء البحر هذا الصّباح و العودة الى مكان آمن أو للمنزل ، أجابته أن لا خوف عليها من هذا المكان الذي تعوّدت زيارته سواء كان خال او عامر لأنها بنت المدينة ومن أصيليها الأوائل وان كل السّكان هنا يعرفون بعضهم البعض و عليه فإنّ هذا التوجّس لا داعي له و لا مبرّر له و أنّها سوف تعود بعد أن تشعر أنها إستوفت كل طقوس الزيارة و إشباع رئتيها بما فيه الكفاية من هواء البحر ...
لمّا شعر باطمئنانها الى المكان و ثقتها التّامة في نفسها تبدّد قلقه عليها و عرف أن المسألة لا تستدعي كل هذا التوجّس لكنّه طلب منها أن تكون حذرة في كلّ الحالات .
لم يكن صبرها أطول من صبره ، فقد كانت تنتظر أن يبادرها بالسّؤال عن الخبر الذي لم تبح به و تركته منذ البارحة لصباح الغد ، لكنه أصرّ على الإطمئنان عليها أوّلاً والسّؤال عن حالها وأن يكبح جماح فضوله اللاّمنتاهي و هنا سالته في شبه لوْم خفيف : من أين لك كل هذا الصبر ، منذ الصّباح كنت انتظر أسئلة أخرى ؟ ضحكت ضحكتها المعتادة التي فهم منها و كأنها تكتشفه من جديد . أجاب مبتسما و قد أذكت فيه نار الفـضول بأسلوبها الخاص : قد كنت أنتظر فعلا هذا الخبر السّعيد كما خبّرتني البارحة لكن تأخُّركِ ساعة كاملة على مهاتفتي كاد ينسيني ، شعرت كثيرا بالقلق عليك ، فلم تتخلّفي و لو مرّة كل هذا الوقت ، أعتقد أننا إتفقنا مع التاسعة و النصف ، قال هذا و ختم بضحكة صغيرة تدلّ أنه ليس مهتمّا كثيرا لهذا التأخير ما دامت هي بخير، هكذا أرد أن يبلّغها لومه بكل لطف و أن يتخلّص بمرونة من عتابها على عدم سؤالها و صبره كلّ هذا الوقت حتى لا تظنّ أنه غير مكترث أو لا يهمّه ما تريد إخباره به هذا اليوم . لما ساد صمت لبعض الثواني شعر أنّ عليه أن يبادرها بالسّؤال حتى لا تظنّ أنّه لا يكترث لهذا ، بادرها بالسؤال : وما هذا الجديد الذي لم أعتد عليه خبّريني ؟ أرجوك فأن صبري نفذ و لم تعد لي طاقة على التحمّل ثم أن لي مهمّة عاجلة و يجب أن أعود للمكتب لإنجازها ، قال هذا وهو يستحثّها على سرعة الأجابة بدواعي مهنية . ضحكت و قالت : يجب أن تعترف أنني إنتصرت عليك ، و أن صبرك نفذ قبل أن ينفذ صبري ، أنا أعرف أنّك تتجاهل هذا الإنتظار عن قصد لكنك نسيت أنني أملك الخبر و تفاصيله تقريبا و أنك لا تعلم شيئا ممّا أعلم ، لذلك كنت متأكدة أنني سأنتصر و سينفذ صبرك مهما طال ، أيّها الفضوليّ الصّامت ، كفاك عنادا و اعترفْ بالهزيمة ، حسنا ، سأعفيك من الأعتراف بها علنا إرضاءً لغرورك و كبرياءك على أن تجيبني بصراحة : هل نِمْت البارحة جيّدا ؟ كان عليه أن يفكّر مرتين قبل أن يجيبها و أن يتخلّص بما بقي من الكبرياء من هزيمته و من شوقه العارم لمعرفة ما يدور في رأسها و ما تخفيه عنه ، فكّر قليلا و تعجّب ، يال المصادفة بين البارحة و اليوم ؟ تذكّر الطفل الذي علِـق بالقمر و الفراشة التي علِـقتْ بسقف البيت و الخبر الذي عـلق بذهنها ،تساءل في نفسه متى سينتصر على هذا الثلاثي المعلّق ؟ كاد ينساها و وهو يفكّر في هذا لكنّه إستفاق من شروده و قرّر أن يجيبها بما يلائم رغبتها في إعلان إنتصار خفيّ لا شماتة فيه و تمسّكها بأن لا تخدش كبرياءه حتى لا تكدّر صفو هذه اللّحظات السّعيدة ، لذلك أجابها بنصف كذبة : البارحة لم أنم جيّدا عزيزتي ، الخبر الذي بتٌّ أنتظره ، الولد المعلّق عقابا في قرص القمر و فراشة حلمي الهاربة من عطاسي و العالقة في سقف بيتي ، كلّ هؤولاء لم يتركوا لي نوما لذيذا و هانيء ... قاطعته قائلة : ماذا تعني بالولد المعلّق في القمر و الفراشة المعلقة في سقف البيت ؟ أجابها : تلك حكاية طويلة سارويها لك فيما بعد ... بعد أن تخبريني بجديدك سأروي لك غدا أوبعد غدٍ تفاصيل هذه الحكاية قد تستغرق وقتا طويلا . قد تكون بودّها أن يقول لها أنّني بتّ أنتظر فحوى الخبر لكن عندما ذكر الطفل المعلّق و الفراشة تشتّت ذهنها و فقدت تركيزها وغلبها فضولها لمعرفة من شاركها ليلته في ذهنه و أخذ مكانا يعادل مكانها ، كادت أن تظهر إضطرابها لكنها تماسكت حفاظا على إنتصارها المؤقت وتظاهرت باللاّمبالاة . شعر بأضطرابها و هو العارف بطبقات صوتها و دلالاته فأصرّ على طلبه ، عندها قالت : جوهر الخبر هو أنني سأراك في بحر الأسبوع القادم ، سيكون بتاريخ ذاك اليوم الذي تقابلنا فيه العاصمة ، أعتقد أنني الآن متأكّدة من قدومي لذلك خيّرت أن لأ أعلمك إلاّ بعد أن أتأكد من ذلك ... في الحقيقة لم يكن ينتظر هذا اللقاء لعلمه بإلتزما تها المهنية و الشخصية أو لأنه كان ينتظر عطلة مطولة . كان كلامها عن قدومها للعاصمة و الموعد فتح له بابا جديدا كان يظنه موصدا على الأقل لحد فترة ، و تساءل في قرارة نفسه هل قدومها لسبب مهني كالمرّة الفارطة ام سيكون ...؟؟؟ و هنا تدارك الأمر و سألها للتوضيح : هل سيكون قدومك للعاصمة لسبب مهني كسابقه أم ...؟ أجابته بكل ثقة في النّفس : ليطمئن قلبك و تهدأ نفسك فقدومي سيكون لأسباب خاصّة ، أريد أن أهرب من ضائقة الدائرة المهنية و ضغوطها ، عليك أن ترتّب الأمر ليكون الموعد و المقابلة مريحة و دون ضغوط المرّة السّابقة . عندما أكملت كلامها شعر بارتياح كبير و كأن فجرا جديدا إنبلج بعد العتمة ، لم يستوعب جيدا هذا الموعد المفاجىء ، لذلك إضطرب و أهتزّ و أنعقد لسانه و غاب عنه الكلام و لم يجد الجملة المناسبة حتى ليعبّر لها عن ترحيبه بها في العاصمة ، إجتاحته المفاجأة و خذلته جرأته و ظهر إرتباكه ، كان بدوره كتابا مفتوحا أمامها و هي في العادة لا تجهد نفسها لتفهمه عرفت أن الخبر عقد كل حواسّه فقرّرت مداعبته و إستفزازه فقالت له : كأني بك لا تريد رؤيتي و لا تحبّذ اللّقاء فصمْتك على الأقلّ يدلّ على هذا ، إذا أردت تأخير الموعد أو إلغائه تماما فلك ذلك ... إنتفض كمن صُعِق بالكهرباء و أجابها على الفور : من قال لك هذا ؟ سأنتظرك حبيبتي ...سأنتظرك و سأزرع مكان لقاءنا و ردا و شموعا... سأنتظرك بكلّ أشواقي مولاتي ...
يتبع...
-