منتديات قفصة
التسجيل يمكّنك من دخول كافة الأقسام و المساهمة فيها، و يتم تفعيل عضويتك بالعودة الي بريدك الإلكتروني والضغط على رابط التفعيل
منتديات قفصة
التسجيل يمكّنك من دخول كافة الأقسام و المساهمة فيها، و يتم تفعيل عضويتك بالعودة الي بريدك الإلكتروني والضغط على رابط التفعيل
منتديات قفصة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 زرقة بحر و موعد

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
طارق

طارق


عدد المساهمات : 533
تاريخ التسجيل : 25/01/2010
العمر : 45

زرقة بحر و موعد Empty
مُساهمةموضوع: زرقة بحر و موعد   زرقة بحر و موعد Icon_minitimeالأحد 26 يونيو 2011 - 11:24


زرقة بحر و موعد Images?q=tbn:ANd9GcRCMlolR5lrKOSrl7ahnuP9Nh4APAwyrVaaSOVwa7IYIFk-XOAQ

من مدونة الحلاج

أيّها السّهاد البائس لا ترافقني هذه الليلة ، دعني لأحلامي ، دعني أبات ليلتي كما أريد ، أحتمي بدفء فراشي من هذا البرد القارس ، و أدير وجهي حيثما أريد ، دعني أختار ساعة نومي ، و ساعة حلمي ، و ساعة قيامي فلستَ حاكمي هذه اللّيلة و لست مُطيعك ، سأعلن عصياني ورفضي لكلّ ما يؤرّقني ، أنا اللّيلة حاكم نفسي ، و أمير أحلامي ، فلن يتودّدني
أحد او يسهر معي إلا نور وجهها ، ثغرها ، إكتنازها ، ضياؤها ، نعم سيزيدني هذا البريق الناعم الممتزج بظلمة هذا الليل إنشراحا وغبطة ، هذا الليل الذي أعلنت منذ أمد حبّي له ، و الذي ألهمني و كان سراج أحلامي ، ليل أحبّه كما لم يحبّه أحد ، أحبّه بقمره ليلة إكتماله ، و بهلاله البازغ كالقوس ، وأحبّه حين يغيب و يقمر أو يهلّ من جديد .
هكذا كان يقول و يضيف منتشيا وهو ممدّد على فراشه : أيّها السّهاد المهزوم أنّني عشقت اللّيل منذ أن كنت طفلا صغيرا و منذ أن كنت ذا الخمس سنوات سنّا ، أفترش حصير الحلفاء صيفا في باحة المنزل هناك حيث لا حاجز بيني والفضاء العالي الرّحب ، و أتوسّد ركبة أمّي ، أوجّه وجهي للسّماء ، أراقب القمر و أُعْجب لنوره ، أتأمّله تأمّل العاشق الوله . هكذا تحدّى السّهاد و سخر منه ... كان يسأل أمه وهو يتثبّت تضاريسه الظاهرة التي كان لا يفقهها و قد كان يظنّ أنّ القمر قرص : أمّاه ما ذاك الشبح الذي أراه في وسط قرص القمر ؟ كانت أمّه تجيبه بكل ثقة في النفس : إنه الولد المعلّق من رموشه في القمر، كان هذا الجواب يهزّه و يرعبه ، فيعود للسؤال ثانية : أمّاه من علّق هذا الطفل ومن رموشه في القمر و ما جناه حتى يعاقب هكذا ؟ كانت أمّه تحسّ برعشته و ألمه لمصير هذا الصبيّ فتمسح بيدها على رأسه برفق و حنان وتقول : هذا الصبي إرتكب إثما و عصى اوامر امّه التي طالما حذّرته من مغبّة العصيان . ينتفض ثانية و يمسك أمه من يدها ليتأكد من صدق كلامها ، و يعيد النظر في قرص القمر ، فيرى شكل طفل صغير يداه الى فوق و رجلاه تتأرجحان في الأسفل ، و وجهه يتجه الى الأعلى كانه فعلا معلقا من رموشه ، يكاد يسمع صراخه وهو يستجدي عطف السّماء و يطلب غفرانا لما أتاه من إثم العصيان ، يصرّ و يلح في السؤال : أمّاه ما الذي فعل هذا الصبي ؟ فتجيب أمّه و قد هالها أن ترى إبنها يهتم أكثر لهذا الصبي المُعلّق : لقد عصى أمر أمّه التي طالما حذرته من مغبّة رمي الخبز في مكان غير طاهر أو التأفّف منه فالخبز نعمة إلاهية و قد يعاقبنا الله بالمجاعة إن نحن لم نحافظ عليه في أماكن طاهرة أو نحن تأففنا منه ، هذا الصبيّ لم يستمع لنصائح أمّه و واصل إستهتاره لذلك علّقته ملائكة العذاب من رموشه عقابا له عوض ان يعاقب جميع الناس بالمجاعة ، يجب أن يعرف جميع الأطفال قدسيّة النّعم الإلاهية و منها الطعام فإياك أن تفعل مثل هذا الصبيّ فتلقى نفس المصير . كان هذا الكلام يرعبه و يتساءل في نفسه "كيف تقبل أمّا أن يعاقب إبنها هكذا و تصمت وهل هناك ملائكة للعذاب ؟ " كان يعتقد أن الذين يكلّفون بالمهام القذرة كالتعذيب هم الشياطين و ليس الملائكة ، لذلك هاله أن يكون عزرائيل ملاك ، عزرائيل الذي أفنى الناس و قابض الأرواح يكون ملاكا ؟ منذ ذلك الحين لم يعد يثق حتى في الملائكة التي كان يعتقد أنها ما خلقت إلاّ لتزرع السّعادة و الحبّ و قيم الجمال بين النّاس . يعود مرّة أخرى للسؤال : ومتى يرفع عنه هذا العقاب ؟ ياله من طفل مسكين ، أمّاه هل يبيت دون غطاء في فصل الشتاء و كيف ينام المسكين وهو معلّق من رموشه ؟ ومن أمر بهذه العقوبة القاسية ؟ فتجيب أمه : لا أدري يا بنيّ الله وحده يعلم ما مصير هذا الطفل ومتى يرفع عنه العقاب . كان هذا الجواب غير مقنع و غير شاف من حرّ السؤال ، يتساءل كم دامت رحلته للقمر؟ و هل يكون القمر سجنا كبيرا ؟ ماذا لو رفض أبوه هذا العقاب القاسي ؟

كان يحرص كل ليلة على مشاهدة القمر و التأكد من صورة الولد المعلّق ، كان يتمنى أن تأتي الليلة التي لا يجد فيها هذه الصورة حتّى ينهي عذاب الصبيّ و يراه مترجّلا ، سيسأله عن كل تفاصيل الرحلة و عن مدّتها و سيسأله هل تاب عن العصيان ، عن بياض القمر ، عن السّحب ، عن النجوم التي تحيط به ، عن سرّ النيازك و الشياطين التي رجمت بها عقابا لها ، عن الأصوات التي تحدثها الرعود ، عن البرق اللامع في السّماء ،عن أصوات الملائكة التي قيل أنها تشبه أصوات العصافير ، عن عدد النجوم ، عن العرش الإلاهي ... كل هذه الأسئلة كانت تأتيه ليلا وهو يراقب السّماء ، ولا يجد لها الجواب الشافي لأن أجوبة أمّه تحيلة الى العلم الإلاهي " يعلم الله يا ولدي"ّ كان هذا جوابها عن كلّ أسئلته ، لم تكن متأكدة إلاّ من حكاية الطفل المعلّق في القمر ، أو جزر الشاق الواق أو حكاية ياجوج وماجوج و خراريف رعب أخرى طالما روتها و كانّها شاهذ عيان..
عندما دخل المدرسة ، لم يكن يبحث عن الأجوبة فقد كانت أحاديث أمّّه و خراريفها من المُسلّماتِ الى أن أتى اليوم درس فيه المنظومة الشمسية ، إكتشف أن القمر كوكب طبيعي ، و أنه ليس بقرص كما كان يظنّ ، وعندها لم يجد متّسعا للصبر، سأل معلمه دون تردّد و بصفة الواثق من نفسه ، سيّدي أما آن رفع عقوبة ذاك الطفل الذي أعلن عصيانه و لم يمتثل لنصائح أمّه ؟ كان عليه أن يروي القصّة كاملة لما لاحظ إستغراب معلّمه و همس بعض زملائه بالفصل ، جلبت الرواية إهتمام الجميع حتى القِلّة الهامسة من التلاميذ ، بل هناك من سانده في روايته و زاد تفاصيل أخرى لا يعرفها و لم تروها أمه فخفّف هذا من حرجه وزاده ثقة بنفسه حتّى لا يظهر في صورة الكاذب . عندما فسّر المعلم حقيقة النظام الشمسي و سيرورة الكواكب و دقّة نظامها و أن أسطورة الطفل المعلّق من رموشه ما هي إلاّ أساطير و أنّ تلك الخطوط قد تكون تضاريس القمر أوما شابه ذلك ، شعر يومها أن كابوسا إنزاح من مخيلته و فرح أيّما فرح فقد إتضح أن الطفل الذي إعتقد أنه تعذّب كثيرا جرّاء عصيانه لم يعذب و أن المسألة لا تعدو إلاّ أن تكون خرافة أو شيء من الهذيان .
من يومها زاد حبّه للقمر و لليل الذي بفضله تتّضح رؤيته ، أصبح عاشقا لليل و للقمر وانزاحت تلك الصّورة القاتمة حول الصبيّ المعلّق ، منذ ذلك اليوم أعاد ترتيب الاشياء و توسّعت دائرة الشكّ في كل المسلمات فكل شيء قابل للمراجعة و الشكّ و كل شيء عرضة للتساءل و السؤال : الملائكة ، الشياطين ، عزرائيل ، عقوبة العصيان ، النّعم المقدّسة ، العرش الإلاهي ، تفاحة حوّاء اللعينة ، اسطورة ذو القرنين ، إنشقاق البحر لموسى أو حتّى عصاه ، بلاد الشاق الواق ، الياجوج و الماجوج ، عروس البحر ، التفاح الذي يرجع الشباب ، سيف على بن أبي طالب ، موت الزير المهلهل ، زوجة العزيز ، براءة الذئب من دم يوسف ، الوليّة الصالحة "أم الزين المنوبية" الوليّ الصالح "سيدي عمر عبادة ّ الذي عالج الحديد باردا بيديه ... كل هذا كان قابلا للشكّ و المراجعة و التدقيق كل شيء يجب أن يصنّف في زاوية الأسطورة ما دامت حكاية الطفل المعلّق تندرج ضمن هذا ... لكن أساطير أمّه ، تخاريفها ، إستقبال صحن السماء ، جمال القمر ، المبيت في باحة المنزل حتى لذع البرد الصباحي صيفا ، النّوم على ركبة الأم شيء لا يعوّض رغم مرارة الشكّ ، الشكّ في في كل ما هو مقدّس...
"أيها السهاد البائس لا ترافقني دعْني لأحلامي ، دعْني أبات ليلتي كما أريد ..." هذا ما ردّده في أول إستلقاء له على فراش النوم عندما كان صوتها و صداه يداعبان أذنيه ، كم كانت متوهّجة أيها الّليل الصديق ، أيها القمر الذي إختبأ خلف سحاب شتوي ، النّافر و المشيح عنّي بوجهك ـ أقسم أنني لم أختر هذه المدينة / الإسفلت بل إختارني القدر أن أكون أحد ساكنيها فلا تنزعج و لا تغضب ، سأعود إليك طفلا صغير يؤمن بالعنقاء و كرامة أولياء الله الصالحين حتّى و إن كنت لا أومن بهذا و لا أصدّقه لأنني في حاجة لإيمان العجائز في جلّ الأحيان لذلك سأستعير هذا الايمان لبعض الوقت لأجلك أيّها اللّيل لأجل القمر. نطر في ساعة الهاتف الخلوي... يا الله ، إنّـها الواحـد صباحا ـ هكـذا يسْهـر دون أرق أو سـهاد ، سيموت لو نام ليلة باكرا فماذا يفيد النّوم باكرا ؟ ...
يسحب غطائه يلفّه حول جسده كما يلفّ تبغ السيجارة ، يجب أن ينام فقد أوفى اللّيل حقّه وداعب وجه قمره في مدينة القحط و في ليلة شتوية ، أغمض عينه ، تراقص ضوء أبيض لا يعرف مأتاه أمام عينيه المغمضتين ، شعر بإرتخاء ...و لن يتذكّر ما حدث فيما بعد ...
يال هذه الفراشة التي تحوم حول وجهه و تداعبه ، يتابعها ، تجوب أركان غرفته ، منذ أن وطأ المدينة لم يرَ فراشة بهذا الحجم و الجمال ، بل أنه لم ير فراشة ما عدى حشرات مفزعة و مقرفة ، ما الذي دعا هذه الفراشة أن تزوره ليلا ؟ مدّ يده فلم تهرب كما تفعل جلّ الفراشات ، أدار كفّ يده إلى الأسفل و أطلق يده في الفضاء ، دارت الفراشة حول يده كمن يبحث مكان للإستراحة ، لم يحرّك يده ظلّ يمدها كما الصّنم و ظلّت تدور حولها حتّى تعبت عندها قرّرت أن تحطّّ على ظهر كفّ يده ، أحسّ بحفيف و نسمة خفيفة متأتية من حركة جناحيها ، عندما حطّت نهائيا و استراحت أراد أن يمسّ جناحها المزركش الليّن ، خاف أن يكسره فتفقد الفراشة حقها في الطيران ، ما قيمة فراشة بجناح مكسور سيكون المشهذ حزينا لو كسّر جناحها ، سيقضم أظافره ندما لو فعل هذا و تسبّب لها في أذى ، تعبت يده و قد أرهقه مدّها هكذا، ضمّ يده قليلا الى صدره ، لم تطرْ الفراشة ، تثبّت فيها بدقة الرسّام الخابر في الأشكال و الألوان ، لما إقترب منها أكثر باغته العطاس ففعل ، طارت الفراشة مذعورة و اتجهت نحو سقف البيت ، مدّ يده على أمل الرّجوع اليه ، بقي ينتظر حتى ملّ الإنتظار ، لم ترجع الفراشة ، بقيت معلّقة في سقف البيت ، إنتطرها مرّة أخيرة لتعود إليه ، تجاهلته و بقيت معلّقة في السقف ، تذكّر الولد المعلّق في القمر ، فراشة معلقة في سقف البيت/طفل معلّق في القمر ، يمكن الوصول الى الفراشة في حين يستحيل الوصول الى القمر ، سيثأر من حالة عجزه السّابقة في إنقاذ الصبي المعلّق ، يجب على الفراشة أن تحطّ أينما شاءت لكن أن تبقى معلّقة هكذا فهذا لن يرضيه فقد تكون عجزت أو وهنت ، لكنّه لا يسمع صراخها و طلبها للنجدة كما لم يسمع صراخ الولد المعلّق في القمر ، ما هذا التشابه ؟ شعر أن سريره يعلو الى فوق كبساط الرّيح ، رويدا رويدا يصعد الى سقف البيت ، ها أنه بدأ يقترب من الفراشة بل أن يده على بعد بعض السينتيمترات منها ، ظهر له أنها ترتجف و لا تطير ، سيأخذها دون أن يكسّر جناحيها الرائعتين ، همّ بها ... سمع صوت المنبّه المتكلّم للهاتف الخلوي الذي يدعوه للنهوض من النوم فقد حانت الساعة السّادسة صباحا ، إرتجّ و خاف لظنّه أنه معلّق و سريره قرب سقف البيت إلى جانب الفراشة ، شدّ بيديه في جنبيْ السّرير مخافة السقوط أرضا ، فتح عينيه ، رأى ضوْءً خافتا يتسرّب من النافذة ثم فهم أنه ليس معلّقا قرب سقف البيت كما كان يظنّ بل أنه كان في حلم ، حلم متابعة الفراشة الجميلة و الرغبة في إنقاذها حتّى لا تبقى معلّقة كما بقي ذلك الصبيّ المعلّق في القمر، قد تكون رغبته المكبوتة في تعويض عجزه عن إنقاذ الصبي لبعد القمر أو للأسئلة الغامضة التي لم يجد لها جوابا... إبتسم ثمّ دفع بغطائه و بحث عن نعليه و عند إنتعاله ، قام و ذهب للإغتسال الصباحي ليذهب للعمل باكرا كعادته ، حتّى و إن كان ثملا فإنّه لا يتأخرعلى عمله ...
لهذا الصباح طعم لذيذ و نسمات منعشة رغم لسعات البرد ، كيف لا وهو الذي ينتـظر مكالمة هامّـة منها ؟ سيصل الأوّل الى مكتبه و يزيح الستائر و يفتح النّوافذ للتهوئة ثم سيتّجه الى المشرب للتّحيّة الصّباحية لزملائه ثم لتناول قهوته الصافية الخفيفة و الإطلاع على آخر المستجدات و سير العمل داخل المؤسسة ثم يعود لمكتبه ليغلق النوافذ و يبدأ عمله الروتيني في إنتظار مهاتفتها التي بدأت تؤرّقه مع مرور السّاعة و بدأت تضيف ألف سؤال و سؤأل في مخيّلته دون أجوبة باتّة ، ترى ما جـديـدها هذا اليوم ؟ ...
يتبع....


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
طارق

طارق


عدد المساهمات : 533
تاريخ التسجيل : 25/01/2010
العمر : 45

زرقة بحر و موعد Empty
مُساهمةموضوع: رد: زرقة بحر و موعد   زرقة بحر و موعد Icon_minitimeالأحد 26 يونيو 2011 - 11:28

لم يكن يتمنّى ان يكون أحدٌ مكانه، فذلك الإنتظار السّهل في صباحه الباكر تحوّل الى نوع من الشدّ العصبي ، كم حاول أن يتجاهل هذا الموعد منذ البارحة و هذا الصباح ، كان ذهابه الى المشرب و حديثه عن شؤون العمل و مزاحه العفوي و المفـتعل مع زملائه و الظهور بمظهر اللاّمبالي كان في الحقيقة كذبة كاد أن يصدقها هو بذاته .عندما عاد الى مكتبه بعد أن شرب قهوته بدأت علامات القلق تظهر عليه فقد أرهقه ضجيج محرّك المكيّف رغم أنّه ضجيج خفيف ، لم يستسغ نوعا من الصّرير الذي ذكّره بصوت بعض الصراصير على نافذته بعد منتصف الليل و حتى الصباح الباكر عندما كان شابّا قبل العشرين ، كان يرهقه هذا ، فلا هو يستطيع النّوم و لا هو يستطيع إبعادها عن نافذته فبمجرّد أن يشعل الأضواء تختفي الصراصير و لا يكاد يطفيء الأضواء و يعود للنّوم حتى تعود من جديد ، كانت حربه الشعواء تنتهي بهزيمة قاسية أمام إصرار الصراصير على تنغيص نومه ليلا كل صيف فكان كل صباح يجدّ في البحث عنها ليقتلها و يتخلّص منها فلا يجدها ، يبحث عنها بين أغصان كرمة العنب المحاذية للنافذة فلا يجد أي أثر لها ، تخامره فكرة إقتلاع الكرمة نهائيا حتىّ يحرم الصراصير من مخبإ آمن ، لكن ثمار العنب التي تكاد تنضج بعد أيام أو أسابيع تمنعه من هذا ثم أن حبّه لثمار العنب و الغضب الشّديد الذي سوف تكون عليه العائلة و خاصة والده يمنعانه أيضا من إقتلاعها...
لذلك إنتفض في مكانه و قرّر التخلّص من صرير المكيف ، بحث عن آله التحكّم فوجدها في مقجر المكتب ، سحبها و ضغط بقوة على الزر الأحمر ليوقف تشغيل محرّك المكيف ، ولما ضغط بهذه الكيفية و هذه القوة شعر أنه فقد الكثير من هدوؤه و تروّيه ، حك رأسه في محاولة لتجاوز قلقه ثم نظر الى ساعة الهاتف الخلويّ ، التاسعة و خمسة و أربعون دقيقة ، تمتم وقال في تفسه تأخرت بعض الوقت ، خمسة عشرة دقيقة هذا لا يهمّ ، ففي عادتها أن لا تخـْلِف موعدا إلاّ لأمر هامّ أو طارىء ، لو كان يعلم أنّها ستتأخر لبقي أكثر في المشرب أو لذهب الى مقرّ النقابة للأطلاع على المستجدّات و المراسلات إنْ وٌجدتْ ، فمنذ أيام لم يفعل هذا ، لعلّ الخلافات التي ظهرت أخيرا بين أعضاء النقابة نفّره من زيارة المكتب ، بعض النّقابيين تظرّروا من هروب الدكتاتور و فقدوا بعض الإمتيازات الإدارية و المادية فأصبحوا يزايدون و يختلقون مطالب مهنية للتغطية على الملفات القديمة... ضحك في تهكّم و قال في نفسه "لا يهمّ ، المُرابي يستطيع التأقلم مع كل الأوضاع و المستجدات " . قد يكون تفكيره في هذا الموضوع و استيائه من الشّطط في المطالب النّـقابية في هذا الظرف الحرج الذي تعيشه البلاد و الرّيبة في حسن نوايا بعض النقابيين خـفّــف عليه حدّة الإنتظار و أخرجه نوعا مّا من الشدّ العصبي الذي أرهقه ، لكنّ مع السّاعة العاشرة و خمسة عشرة دقيقة بدأ يفقد صبره شيئا فشيئا ، قام من مكتبه في حركة منفعلة و قرّر الذهاب للمشرب لتناول قهوته الثانية و قد كان في عادته الإكتفاء بقهوة واحدة و كأسا من الشاي في الظهيرة ، فإذا أعاد شرب فنجان آخر من القهوة فهذا يعني أنه يعيش ضغطا معينا و يريد إخفاءه بإرتشاف قهوة أو ثرثرة و حديث قد يكون لا معنى له ، عندما وصل الى المشرب طلب قهوته و جلس جانبا في أركان المشرب حتى لا يتورّط في حديث و يكون مجبرا على إتمامه مجاملة خاصّة وأنّه ليس في حاجة للحديث .
عندما وضع النّادل القهوة على الطاولة بعد أن مسح الطاولة و إستبدل مطفأة السّجائر و بعد أن أصرّ أن يسلّمه قارورة ماء الزّهر ليضع بنفسه القدر الذي يريد كحركة ودّ منه و استثناء على باقي الزبائن ، رنّ الهاتف رنّـته الأولى نظر الى السّاعة الحائطية للمشرب قبل أن يـردّ على المكالمة فرأى أنها السّاعة العاشرة و النصف تماما ، رفع الهاتف و همّ بفتح الزرّ للإستماع ثم تذكّر أنه لا يجب أن يبقى بالمشرب فزملاءه قد يشاركونه الطاولة فيحرجونه بسماعهم أخبارا عن شؤونه الخاصّة جداّ ثم أن هناك بعض الفضوليين الذين لا همّ لهم إلا التنصّت و جمع الأخبار . أشار للنّادل بيده أنْ يأخذ فنجان القهوة و يحـتـفـظْ به على آلة عصْـر القهوة حتّى تحافظ على دفئها ثم قام من مكانه قاصدا مكانا آخر إعتاد الجلوس فيه كلّما عنّ له أن يهاتفها ، مكان يريحه بخضرته و إتقان توظيب و زرع وروده التي توزّعت بشكل جميل رغم ضيق المساحة . عندما خرج مباشرة من المشرب ظغط على زرّ فتح الهاتف لما سمع صوتها نسي العالم الذي حوله و كأنه لم يستمع لصوتها منذ أمد طويل رغم أنها البارحة ليلا كانت تكلّمه .
كعادته ، من خلال نبرات صوتها الصباحي و رخامته او بحّـته الخـفيفة و حروفها السائبة المتـراخية و المتـواترة حينا أو المتقـطّعة و المتلـعثمة حينا آخر أومن خلال كلماتها المنقبضة و الجادّة و الجافّة ، تصبح كتابا مفتوحا أمامه و اضح الحروف جليّ المعاني ، سواد على بياض ، هي كما هي ، واضحة كخيوط الشمس الصّباحية ، فمن خلال صوتها يعرف إن كانت سعيدة ، قلقلة ، متعبة ، تناولت قهوتها الصباحية أم لا ، أفطرت أو هي تعدّه ، أعدت نفسها للخروج أم لا زالت تضع أحمر الشفاه وصباغ الأظاقر ... لما كلّمته و سمع صوتها النّاعم المرهف المنغّم فهم أنّها منشرحة و سعيدة ، و أن مزاجها الا تشوبه شائبة و أنّها صافية كزجاج الكريستال . إطمئنّ لهذه التحية الصباحية الرقيقة و العذبة لكنه إحتفـظ بشيء من وقاره و رصانته كان يودّ أن تقول له قبل كل شيء " ماهو الخبر الذي سوف تزفّه ؟ " لكنه تراجع حتى يقتنص الفرصة المنـا سبة ليسألها . حدثته عن الطقس المتقلّب و عن حالة البحر و أمواجه العاتية هذا الصباح و أنها تقف شبه وحيدة على حافة الشاطىء الرّملي تراقب بعض المراكب الراسية التي هجرها البحّارة اليوم نظرا لتقلب الطّقس و خطورة صيد الأسماك في مثل هذه الحالة و عن تصادم الأمواج و أشعّة الشمس التي تتسلّل بين السّحاب بالأمواج العاتية و عن زبد البحر الذي يمسح رمال الشاطيء بلطف كما تتحسّس الأم شعر رأس رضيعها و عن الهواء البحري البارد و النقي و الذي يشعرها أنها سيّدة هذا الشاطىء و عن حركة أمواج البحر و انعكاس أشعة الشمس الخفيفة و انكسارها على سطح البحر و الذي يظهركمشهد إحتفالي فرحا بقدوم أميرة الشاطيء و حارسة حدود البحر الأمينة . هاله أن تقف وحيدة على شاطىء البحر في مكان يتخيّله بعيدا و خال من النّاس و ما قد يمثله هذا من خطر عليها فهو يتوجّس الخوف عليها خاصة و أنه لا يعرف المكان جيّدا و ليست له فكرة واضحة عن سكان مدينتها ما عدى ما سمعه من مدح و تفاخر أتى على لسانها أو لسان بعض أبناء المدينة ذاتها من أصدقائه ، عندما تخيّل المكان و قـفْره سألها بكل جدّ إن كانت مطمطئنة الى هذا المكان الخالي و ألْمح لها بضرورة مغادرة المكان خوفا عليها لعلمه الأكيد أنها تنسى الخوف و المخاطر أمام سحر جمال البحر و انبهارها به حتّى أنّ هذا يكاد يسبّب شعورا بالغيرة لديه و الأنقباض الخفيّ المكتوم . لما فهمت تلميحه بضرورة مغادرة المكان و الأكتفاء بما أمضته من الوقت على شاطىء البحر هذا الصّباح و العودة الى مكان آمن أو للمنزل ، أجابته أن لا خوف عليها من هذا المكان الذي تعوّدت زيارته سواء كان خال او عامر لأنها بنت المدينة ومن أصيليها الأوائل وان كل السّكان هنا يعرفون بعضهم البعض و عليه فإنّ هذا التوجّس لا داعي له و لا مبرّر له و أنّها سوف تعود بعد أن تشعر أنها إستوفت كل طقوس الزيارة و إشباع رئتيها بما فيه الكفاية من هواء البحر ...
لمّا شعر باطمئنانها الى المكان و ثقتها التّامة في نفسها تبدّد قلقه عليها و عرف أن المسألة لا تستدعي كل هذا التوجّس لكنّه طلب منها أن تكون حذرة في كلّ الحالات .
لم يكن صبرها أطول من صبره ، فقد كانت تنتظر أن يبادرها بالسّؤال عن الخبر الذي لم تبح به و تركته منذ البارحة لصباح الغد ، لكنه أصرّ على الإطمئنان عليها أوّلاً والسّؤال عن حالها وأن يكبح جماح فضوله اللاّمنتاهي و هنا سالته في شبه لوْم خفيف : من أين لك كل هذا الصبر ، منذ الصّباح كنت انتظر أسئلة أخرى ؟ ضحكت ضحكتها المعتادة التي فهم منها و كأنها تكتشفه من جديد . أجاب مبتسما و قد أذكت فيه نار الفـضول بأسلوبها الخاص : قد كنت أنتظر فعلا هذا الخبر السّعيد كما خبّرتني البارحة لكن تأخُّركِ ساعة كاملة على مهاتفتي كاد ينسيني ، شعرت كثيرا بالقلق عليك ، فلم تتخلّفي و لو مرّة كل هذا الوقت ، أعتقد أننا إتفقنا مع التاسعة و النصف ، قال هذا و ختم بضحكة صغيرة تدلّ أنه ليس مهتمّا كثيرا لهذا التأخير ما دامت هي بخير، هكذا أرد أن يبلّغها لومه بكل لطف و أن يتخلّص بمرونة من عتابها على عدم سؤالها و صبره كلّ هذا الوقت حتى لا تظنّ أنه غير مكترث أو لا يهمّه ما تريد إخباره به هذا اليوم . لما ساد صمت لبعض الثواني شعر أنّ عليه أن يبادرها بالسّؤال حتى لا تظنّ أنّه لا يكترث لهذا ، بادرها بالسؤال : وما هذا الجديد الذي لم أعتد عليه خبّريني ؟ أرجوك فأن صبري نفذ و لم تعد لي طاقة على التحمّل ثم أن لي مهمّة عاجلة و يجب أن أعود للمكتب لإنجازها ، قال هذا وهو يستحثّها على سرعة الأجابة بدواعي مهنية . ضحكت و قالت : يجب أن تعترف أنني إنتصرت عليك ، و أن صبرك نفذ قبل أن ينفذ صبري ، أنا أعرف أنّك تتجاهل هذا الإنتظار عن قصد لكنك نسيت أنني أملك الخبر و تفاصيله تقريبا و أنك لا تعلم شيئا ممّا أعلم ، لذلك كنت متأكدة أنني سأنتصر و سينفذ صبرك مهما طال ، أيّها الفضوليّ الصّامت ، كفاك عنادا و اعترفْ بالهزيمة ، حسنا ، سأعفيك من الأعتراف بها علنا إرضاءً لغرورك و كبرياءك على أن تجيبني بصراحة : هل نِمْت البارحة جيّدا ؟ كان عليه أن يفكّر مرتين قبل أن يجيبها و أن يتخلّص بما بقي من الكبرياء من هزيمته و من شوقه العارم لمعرفة ما يدور في رأسها و ما تخفيه عنه ، فكّر قليلا و تعجّب ، يال المصادفة بين البارحة و اليوم ؟ تذكّر الطفل الذي علِـق بالقمر و الفراشة التي علِـقتْ بسقف البيت و الخبر الذي عـلق بذهنها ،تساءل في نفسه متى سينتصر على هذا الثلاثي المعلّق ؟ كاد ينساها و وهو يفكّر في هذا لكنّه إستفاق من شروده و قرّر أن يجيبها بما يلائم رغبتها في إعلان إنتصار خفيّ لا شماتة فيه و تمسّكها بأن لا تخدش كبرياءه حتى لا تكدّر صفو هذه اللّحظات السّعيدة ، لذلك أجابها بنصف كذبة : البارحة لم أنم جيّدا عزيزتي ، الخبر الذي بتٌّ أنتظره ، الولد المعلّق عقابا في قرص القمر و فراشة حلمي الهاربة من عطاسي و العالقة في سقف بيتي ، كلّ هؤولاء لم يتركوا لي نوما لذيذا و هانيء ... قاطعته قائلة : ماذا تعني بالولد المعلّق في القمر و الفراشة المعلقة في سقف البيت ؟ أجابها : تلك حكاية طويلة سارويها لك فيما بعد ... بعد أن تخبريني بجديدك سأروي لك غدا أوبعد غدٍ تفاصيل هذه الحكاية قد تستغرق وقتا طويلا . قد تكون بودّها أن يقول لها أنّني بتّ أنتظر فحوى الخبر لكن عندما ذكر الطفل المعلّق و الفراشة تشتّت ذهنها و فقدت تركيزها وغلبها فضولها لمعرفة من شاركها ليلته في ذهنه و أخذ مكانا يعادل مكانها ، كادت أن تظهر إضطرابها لكنها تماسكت حفاظا على إنتصارها المؤقت وتظاهرت باللاّمبالاة . شعر بأضطرابها و هو العارف بطبقات صوتها و دلالاته فأصرّ على طلبه ، عندها قالت : جوهر الخبر هو أنني سأراك في بحر الأسبوع القادم ، سيكون بتاريخ ذاك اليوم الذي تقابلنا فيه العاصمة ، أعتقد أنني الآن متأكّدة من قدومي لذلك خيّرت أن لأ أعلمك إلاّ بعد أن أتأكد من ذلك ... في الحقيقة لم يكن ينتظر هذا اللقاء لعلمه بإلتزما تها المهنية و الشخصية أو لأنه كان ينتظر عطلة مطولة . كان كلامها عن قدومها للعاصمة و الموعد فتح له بابا جديدا كان يظنه موصدا على الأقل لحد فترة ، و تساءل في قرارة نفسه هل قدومها لسبب مهني كالمرّة الفارطة ام سيكون ...؟؟؟ و هنا تدارك الأمر و سألها للتوضيح : هل سيكون قدومك للعاصمة لسبب مهني كسابقه أم ...؟ أجابته بكل ثقة في النّفس : ليطمئن قلبك و تهدأ نفسك فقدومي سيكون لأسباب خاصّة ، أريد أن أهرب من ضائقة الدائرة المهنية و ضغوطها ، عليك أن ترتّب الأمر ليكون الموعد و المقابلة مريحة و دون ضغوط المرّة السّابقة . عندما أكملت كلامها شعر بارتياح كبير و كأن فجرا جديدا إنبلج بعد العتمة ، لم يستوعب جيدا هذا الموعد المفاجىء ، لذلك إضطرب و أهتزّ و أنعقد لسانه و غاب عنه الكلام و لم يجد الجملة المناسبة حتى ليعبّر لها عن ترحيبه بها في العاصمة ، إجتاحته المفاجأة و خذلته جرأته و ظهر إرتباكه ، كان بدوره كتابا مفتوحا أمامها و هي في العادة لا تجهد نفسها لتفهمه عرفت أن الخبر عقد كل حواسّه فقرّرت مداعبته و إستفزازه فقالت له : كأني بك لا تريد رؤيتي و لا تحبّذ اللّقاء فصمْتك على الأقلّ يدلّ على هذا ، إذا أردت تأخير الموعد أو إلغائه تماما فلك ذلك ... إنتفض كمن صُعِق بالكهرباء و أجابها على الفور : من قال لك هذا ؟ سأنتظرك حبيبتي ...سأنتظرك و سأزرع مكان لقاءنا و ردا و شموعا... سأنتظرك بكلّ أشواقي مولاتي ...

يتبع...
-

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
طارق

طارق


عدد المساهمات : 533
تاريخ التسجيل : 25/01/2010
العمر : 45

زرقة بحر و موعد Empty
مُساهمةموضوع: رد: زرقة بحر و موعد   زرقة بحر و موعد Icon_minitimeالأحد 10 يوليو 2011 - 11:33

زرقة بحر و موعد Verre-de-vin
أحسّ أن إبحاره بحاسوبه سيفسد عليه عادته التي طالما حافظ عليها منذ أن عرف
الخمرة و كلّما أتته رغبة الإستفراد بزجاجة النبيذ و مائدته و ها أنّه بعد
كأسه الرابعة أحسّ بأنه يجب يتفرّغ للخمر ة و الموسيقى و ان إبحاره بحاسوبه
يفسد عليه شيئا مهمّا وهو أن ينقطع تماما على العالم و أن يعيش كأنه
الكائن البشري الوحيد على وجه هذه البسيطة و أن يتحول من إنسان عادي الى
ناسك و ان يرتّب حصّة التعبّد بكل طقوسها و نوامسها كما إعتاد وأن يأخذ
كأسه بيده اليمنى على أن يمرّرها لليد اليسرى ثم يمسكها بكلتا يديه و
يتأمّلها و يرجّها رجّا خفيفا ثمّ يري فعل حمرة الخمر و اثاره على الكأس
البلوري الرّفيع فإن ترك حمرة خفيفة زاد ولها بها حتى لكأنّها رحيق الروح و
ضوء البصر، لذلك كان يختار كأسه و نوع خمره بعناية حتّى تنجح كلّ تفاصيل
الطّقوس ، لكن هذه الليلة أحسّ أنّه يجب أن يدخل تعديلا هامّا قواعد
جلسته ﻷنّ شبئا مّا لا يفارقه يؤرّق خشوعه ، فقد باتت صورتها لا تفارقه بل و
أصبح يرى طيفها من خلف تلك الحمرة الخفيفة المرسومة على الكأس و يرى أن
تلك الحمرة الخفيفة إنّما هي أثار شفتيها على الكأس، تساءل بداخله
"هل إختلطت
حمرة
"الشّفاه بحمرة الخمر ؟ "ثم أن" هل أنّ ما يحسّه هو فعل الخمر
أم فعل العشق ؟ بقي حائرا بين ان يختار بين حمرة شفاهها
أو حمرة الخمرة وهل سيكون عادلا في حكمه ؟
. لأول
مرّة أحسّ ان إنفراده بكأسه لن يكن كما عهد بل أنّ هناك ثالثا يشاركه
جلسته بل و يقتحم المكان بدون إذن و لأول مرّة قبل بهذا الزائر رغم أن
نواميس جلسته الإنفرادية لم تكن تسمح بذلك إطلاقا ، فجأة تذكّر أنّ عليه أن
يكرم وفادته ضيفه و أن يكون أصيلا في ضيافته ، لذلك قام من مكانه و اتّجه
الى رفّ الكؤوس و اخذ كأسا من صنف كأسه و عاينها برفق ثم أدارها من كل
جوانبها و أخذ منديلا أبيض و مسحها جيدا حتى يزداد لمعان البلّور و شفافيته
ثم وضعها برفق على الطاولة و ملأها حتّى جاوزت منتصفها و أخذ كأسه و نقره
نقرا خفيفا على كأس الضيف النديم ثم قال بصوت خافت
:«على صحّتك و صحّة الذي بيننا " و
ظهر له أنه في حاجة للغناء و انه في حاجة لسماع صوت يشجيه منذ صغره وهو
صوت فنانة لصوتها مكان خاص في قلبه منذ أن كان يغافل أبيه ليلا و يسحب منه
المذياع من تحت الستارة التي تحجبه في" الطّاقة" الصغيرة. سيستمع اليها في أغنية " كي دار كاس الحبّ بيني و بينك"ثم
دخل من جديد في سحنة ثانية من واجبات الطّقوس يسمع و يرتشف كأسا و يراقب
أخرى لا زالت مليئة ثمّ يطبق صمتا حتى نهاية الأغنية و هكذا كان يملأ
كأسه و ينتقل من أغنية الى أخرى فلمّا قاربت زجاجة الخمر على نهايتها كانت
يستمع الى " أش يفيد الملامّ في قلب المضامْ" و عندما تصل الى " وعيون مثل السهام في قلبي رشقو" يشعر
برجّة و بعطش شديد و أنه في حاجة أشد للخمر ، يقوم و يفتح قارورته
الثانية ﻷنه شعر أن الحفل بدأ وأن خمره و نديمه رضيا عنه و أن قربانه و
القدّاس بلغا المدى و أن حمرة الشفتين و حمرة الخمر تزاوجا و أن ذبول
عينيها دلّ على إنتشاء ما بعده إنتشاء.ظلّ
يرواح بين الكأس و الكأس و بين الصّوت و الصّوت حتى أحسّ أن المكان أصبح
لا يسعه و ان الكأس ترقص على وقع ما يستمع إليه و تشاركه نشوته كما أن
كأس النّـدبم بـدأت تتناقص بفعل ساحر أو ما شابه ذلك و ان اللّـيل ذهب
أكـثره بل و يحـضره من الشعر ما حفظه منذ الصّغر


نبّه نديمك قد نعسْ *** يسقيك كأسا في الغلـسْ

يـدْعى فيرفع رأسه ***فإذا إستقلّ به نكــــــــــسْ

عندها
يدفع كأسه برفق و يغلق جيدا الزجاجة بما بقي فيها لليلة قادمة و عندما
يقوم يشعر بدوار خفيف يتراجع و يقضم تفاحة كعادته عند كل نهابة خلوته مع
الخمر و يوضّب المكان دون أن يلقي ما بقي من الخمر في كأس النديم فيحتار
ماذا سيفعل بالكأس ؟ ثمّ يأخذه فيرى أثار شفتيها عليه فيشعر انها تدعوه
لشربها ليتذوّق كأس الغلس و رحيق الشفتين فييفعل و يشعر أن هذه الكأس لن
تظاهيها أيّ كأس منذ بداية القدّاس الخمري.

يعود الى فراشه غير متثاقل و خفيفا كريش النّعام و يرتمي فوق غطاءه دون أن يكلّف نفسه عناء الإحتماء من البرد ، ومن أين سيأتي البرد وحرارة الخمر و العشق يلهبانه ؟ ثم إنّه إبن مدن و قرى الثلج لا يخيفه برد هذه المدينة القاحلة و الصاخبة . عندما
توسّد مخدّته كاد أن ينسى كل شيء بفعل الخمر و السّهر الطّويل إلاّ شيئا
واحدا لم يغب عن خياله هو صوتها الأخّاذ و الموعد القادم الذي ينتظره على أحرّ من الجمركأنّه طفل الفطام الذي ينتظر ثديّْ أمّه،بقي صوتها يدغدغه و يسلّيه حتى أخذه النعاس فنام...



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
زرقة بحر و موعد
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» في تطور مثير تقديم موعد النظر في قضية البغدادي المحمودي
» عمل جبار ينتظر الهيئة المستقلة للانتخابات لبلوغ موعد 24 جويل

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات قفصة :: المنتديات العامة :: المنتدى العام-
انتقل الى: