الجامعة العربية بحلول نهاية الألفية أتمت الجامعة العربية خمسة وخمسين عاماً على نشأتها
التى تؤرخ لنشأة النظام الإقليمى العربى وتطبعه بالسمة المتفردة التى ميزته
ثم لازمته: السمة القومية، واتسعت عضويتها من سبع دول عربية هى جملة الدول
العربية المستقلة فى أوساط الأربعينيات لتشمل اثنتين وعشرين دولة عربية هى
مجموع الدول الأعضاء فى النظام الإقليمى العربى. واجتازت عدة مراحل تطور
وعاصرت محاولات مختلفة لإعادة الهيكلة هى مراحل ومحاولات عاكسة لجهود تحديث
النظام الإقليمى العربى نفسه.
1- النشأة أ-السياق العام على الرغم من أن الدعوة إلى الوحدة العربية كانت مطروحة منذ عدة قرون إلا
أن فكرة إقامة تنظيم عربى واحد يجمع شمل الدول العربية لم تتبلور أو تتضح
معالمها إلا خلال الحرب العالمية الثانية بفعل جملة متغيرات عربية وإقليمية
ودولية.
على المستوى العربى يمكن القول إن الحقيقة العربية كانت هى حجر الأساس لهذا
التطور التاريخى. فمن ناحية، كانت الحرب مناسبة لنمو الحركات الوطنية
ونشاط المقاومة ضد الوجود الاستعمارى الأمر الذى انعكس على استقلال عدد
متزايد من الدول العربية وأنشأ الحاجة إلى إقامة نوع من التوازن بين القوى
السياسية لعبت فيه مصر دوراً فاعلاً. ومن ناحية ثانية، تعززت الحاجة إلى
الوحدة مع الوعى بمخاطر الحركة الصهيونية وتقاطر الهجرات اليهودية إلى
فلسطين بدور لا يغفل للدولة المنتدبة عليها.. "بريطانيا"، تحقيقاً لحلم
الدولة اليهودية. ومن ناحية ثالثة، أدى تزايد الاحتكاك بالغرب نتيجة
البعثات التعليمية إلى الانفتاح على بعض الأفكار والتيارات السياسية التى
كانت تعتمل فيه، وفى مقدمتها الفكرة القومية. ومن ناحية رابعة، بدت أن هناك
درجة معقولة من التبادل التجارى وانتقال الأشخاص لا سيما بين دول المشرق
العربى على نحو بدا وكأنه يوفر الأساس المادى للوحدة إضافة إلى الأساس
الروحى والثقافى المبدئى.
وعلى المستوى الإقليمى ساعدت التطورات التى كانت تجتازها دول الجوار وهى
بالأساس تركيا وإيران على شغلها بنفسها وصرفها عن محاولة إجهاض مساعى العرب
إلى الوحدة. أما تركيا فقد كانت هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى
ومخاوفها من قيام نظام شيوعى على حدودها وبوادر تغيير علاقاتها وتحالفاتها
من الشرق إلى الغرب أهم محددات أجندتها الداخلية والخارجية، وفى الوقت الذى
تكفل فيه استيلاؤها على إقليم الأسكندرونة من سوريا وفشلها فى اقتطاع
الموصل من العراق بتعلية الجدران التى تفصلها عن محيطها العربى - الإسلامى
وإكسابها سمكاً إضافياً، وأما إيران فكانت مكبلة بنظام متسلط وباستعمار
غربى مسيطر على موارد الثروة فيها، وكانت مهددة بأكثر مما كانت تركيا بخطر
الجار الشيوعى القوى الذى تحتفظ معه بحدود طويلة والذى لم يخف نواياه
الاستعمارية لا فى منافذها البحرية ولا فى نفطها.
وعلى المستوى الدولى تلت الحرب العالمية الثانية مرحلة انتقالية من مراحل
تطور النظام الدولى، صرفت انتباه الولايات المتحدة إلى المناطق المجاورة
للاتحاد السوفيتى وأوروبا الشرقية والصين، فيما تركت المنطقة العربية،
مؤقتاً، لتقع ضمن اهتمامات بريطانيا وفرنسا بخبرتيهما الطويلة فى الشئون
العربية. وفيما يخص بريطانيا تحديداً فمن المهم فى تحليل موقفها من تأسيس
الجامعة العربية توضيح حقيقتين بالغتى الأهمية.
الحقيقة الأولى، أنها لعبت بالفعل دوراً داعماً لتأسيس الجامعة العربية
لأسباب مصلحية سيرد ذكرها.
والحقيقة الثانية، أن هذا الدور كان دوراً مكملاً أو مساعداً ولم يكن دوراً
منشئا أو مبادرا، سواء لأنه لا توجد دولة ما كانت ومهما بلغت درجة هيمنتها
السياسية فى حقبة تاريخية معينة قادرة على نفخ الروح فى فكرة من العدم، أو
لأن السلوك السياسى البريطانى، وكلما اتضح لاحقاً كان سلوكاً معادياً
لتطوير الآصرة العربية وساعياً إلى منافستها بأواصر مصطنعة أهمها الأواصر
الشرق أوسطية. بقول آخر، لقد وجدت بريطانيا فى الأربعينيات من القرن
العشرين أن وجود أحد الأشكال المؤسسية التى تنتظم فيها الدول العربية
المستقلة فى حينه يخدم مصالحها من عدة وجوه أساسية.
1- التعاطى مع أمانى المنطقة تعاطياً جديداً تحسباً للمنافسات الدولية،
والفرنسية منها بالأساس.
2 - التجاوب مع المد الاستقلالى والتحررى الذى بدا أنه سيكون أحد معالم
العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب.
3 - وهو مرتبط بسابقه، الاعتبار بالانتفاضات التى حصلت ضدها، ومنها ثورة
العراق أيام رشيد على الكيلانى، وحركات التمرد ضدها فى مصر.
4 - حل قضية اليهود فى فلسطين، توهما منها أن تأسيس دولة يهودية لا يمكن
أن يتم إلا من خلال إطار عربى عام قادر على إعطاء التنازلات للصهاينة وموحد
لكلمة العرب ومنسقها فى هذا الشأن. والخامس الاستفادة من خبرة الحرب
العالمية الثانية التى أكدت الطبيعة الواحدة اقتصاديا واستراتيجيا للمنطقة
العربية كمنطقة تزخر باحتياطى نفطى ضخم يجاور ثلثى الاحتياطى العالمى
المعروف آنذاك وكمعبر لأحد أهم المجارى المائية الدولية: قناة السويس،
وكحلقة وصل بين الشرق والغرب، وبالتالى الشعور بالحاجة للتعامل مع هذه
الحقيقة بما يلائمها.
وفى هذا السياق جاء إلقاء انتونى إيدن وزير خارجية بريطانيا خطابا فى
29/5/1941 ذكر فيه "إن العالم العربى قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التى
تمت عقب الحرب العالمية الماضية، ويرجو كثير من مفكرى العرب للشعوب العربية
درجة من درجات الوحدة أكبر مما تتمتع به الآن. وإن العرب يتطلعون لنيل
تأييدنا فى مساعيهم نحو هذا الهدف ولا ينبغى أن نغفل الرد على هذا الطلب من
جانب أصدقائنا ويبدو أنه من الطبيعى ومن الحق وجود تقوية الروابط الثقافية
والاقتصادية بين البلاد العربية وكذلك الروابط السياسية أيضاً... وحكومة
جلالته سوف تبذل تأييدها التام لأى خطة تلقى موافقة عامة". وبعد أقل من
عامين من هذا التاريخ وتحديداً فى 24/2/1943 عاد إيدن يصرح فى مجلس العموم
البريطانى بأن الحكومة البريطانية "تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب
ترمى إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية."
ب- الخطوات التنفيذيةاستثماراً للعوامل الذاتية المبررة للوحدة وللظروف الإقليمية والدولية
المواتية، بدأت الخطوات التنفيذية لوضع هدف الوحدة موضع التنفيذ . فلقد أخذ
رئيس الوزراء المصرى مصطفى النحاس بزمام المبادرة بعد عام تقريباً من خطاب
أنتونى إيدن. ودعا كلا من رئيس الوزراء السورى (جميل مردم) ورئيس الكتلة
الوطنية اللبنانية (بشارة الخورى) للتباحث معهما فى القاهرة حول فكرة
"إقامة جامعة عربية لتوثيق العرى بين البلدان العربية المنضمة لها". وكانت
هذه أول مرة تثار فيها فكرة الجامعة العربية بمثل هذا الوضوح ثم عاد بعد
نحو شهر من تصريح إيدن أمام مجلس العموم، ليؤكد استعداد الحكومة المصرية
لاستطلاع آراء الحكومات العربية فى موضوع الوحدة وعقد مؤتمر لمناقشته وهى
الفكرة التى أثنى عليها حاكم الأردن فى حينه الأمير عبد الله. وعلى أثر ذلك
بدأت سلسلة من المشاورات الثنائية بين مصر من جانب وممثلى كل من العراق
وسوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية والأردن واليمن من جانب آخر
وهى المشاورات التى أسفرت عن تبلور اتجاهين رئيسيين بخصوص موضوع الوحدة
الاتجاه الأول يدعو إلى ما يمكن وصفه بالوحدة الإقليمية الفرعية أو الجهوية
وقوامها سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب. والاتجاه الثانى يدعو إلى نوع أعم
وأشمل من الوحدة يظلل عموم الدول العربية المستقلة وإن تضمن هذا الاتجاه
بدوره رأيين فرعيين أحدهما يدعو لوحدة فيدرالية أو كونفدرالية بين الدول
المعنية والآخر يطالب بصيغة وسط تحقق التعاون والتنسيق فى سائر المجالات
وتحافظ فى الوقت نفسه على استقلال الدول وسيادتها.
وعندما اجتمعت لجنة تحضيرية من ممثلين عن كل من سوريا ولبنان والأردن
والعراق ومصر واليمن (بصفة مراقب) فى الفترة 25/9 إلى 7/10/1944 رجحت
الاتجاه الداعى إلى وحدة الدول العربية المستقلة بما لا يمس استقلالها
وسيادتها. كما استقرت على تسمية الرابطة المجسدة لهذه الوحدة بـ "جامعة
الدول العربية" وآثرته على مسمى "التحالف" و "الاتحاد" كون الأول يشير إلى
علاقة عارضة والثانى يعبر عن علاقة تجب الاختصاصات المتفق على تحويلها
للمنظمة العربية الناشئة. وعلى ضوء ذلك تم التوصل إلى بروتوكول الإسكندرية
الذى صار أول وثيقة تخص الجامعة والذى نص على المبادئ الآتية:
-قيام جامعة الدول العربية من الدول العربية المستقلة التى تقبل الانضمام
إليها ويكون لها مجلس تمثل فيه الدول المشتركة فى الجامعة على قدم
المساواة.
- مهمة مجلس الجامعة هى مراعاة تنفيذ ما تبرمه الدول الأعضاء فيما بينها من
اتفاقيات وعقد اجتماعات دورية لتوثيق الصلات بينها والتنسيق بين خططها
السياسية تحقيقات للتعاون فيما بينها وصيانة استقلالها وسيادتها من كل
اعتداء بالوسائل السياسية الممكنة، والنظر بصفة عامة فى شئون البلاد
العربية.
- قرارات المجلس ملزمة لمن يقبلها فيما عدا الأحوال التى يقع فيها خلاف بين
دولتين من أعضاء الجامعة ويلجأ الطرفان إلى المجلس لفض النزاع بينهما. ففى
هذه الأحوال تكون قرارات المجلس ملزمة ونافذة.
- لا يجوز الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة كما
لا يجوز اتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو أية دولة
من دولها.
- يجوز لكل دولة من الدول الأعضاء بالجامعة أن تعقد مع دولة أخرى من دول
الجامعة أو غيرها اتفاقات خاصة لا تتعارض مع نصوص هذه الأحكام وروحها.
- الاعتراف بسيادة واستقلال الدول المنظمة إلى الجماعة بحدودها القائمة
فعلاً.
كما اشتمل البروتوكول على قرار خاص بضرورة احترام استقلال لبنان وسيادته،
وعلى قرار آخر باعتبار فلسطين ركناً هاماً من أركان البلاد العربية وحقوق
العرب فيها لا يمكن المساس بها من غير إضرار بالسلم والاستقلال فى العالم
العربى، ويجب على الدول العربية تأييد قضية عرب فلسطين بالعمل على تحقيق
أمانيهم المشروعة وصون حقوقهم العادلة.
وأخيراً نص فى البروتوكول على أن (تشكل فوراً لجنة فرعية سياسية من أعضاء
اللجنة التحضيرية المذكورة للقيام بإعداد مشروع لنظام مجلس الجامعة، ولبحث
المسائل السياسية التى يمكن إبرام اتفاقيات فيها بين الدول العربية.)
ووقع على هذا البروتوكول رؤساء الوفود المشاركة فى اللجنة التحضيرية وذلك
فى 7/10/1944 باستثناء السعودية واليمن اللتين وقعتاه فى 3/1/1945 و
5/2/1945 على التوالى بعد أن تم رفعه إلى كل من الملك عبد العزيز آل سعود
والإمام يحيى حميد.
ولقد مثل هذه البروتوكول الوثيقة الرئيسية التى وضع على أساسها ميثاق جامعة
الدول العربية وشارك فى إعداده "أى الميثاق" كل من اللجنة السياسية
الفرعية التى أوصى بروتوكول الإسكندرية بتشكيلها ومندوبى الدول العربية
الموقعين على بروتوكول الإسكندرية، مضافاً إليهم مندوب عام كل من السعودية
واليمن وحضر مندوب الأحزاب الفلسطينية كمراقب. وبعد اكتمال مشروع الميثاق
كنتاج لستة عشر اجتماعا عقدتها الأطراف المذكورة بمقر وزارة الخارجية
المصرية فى الفترة بين 17/2 و 3/3/1945 أقر الميثاق بقصر الزعفران بالقاهرة
فى 19/3/1945 بعد إدخال بعض التنقيحات عليه.
تألف ميثاق الجامعة من ديباجة وعشرين مادة، وثلاثة ملاحق خاصة الملحق الأول
خاص بفلسطين وتضمن اختيار مجلس الجامعة مندوباً عنها "أى عن فلسطين"
للمشاركة فى أعماله لحين حصولها على الاستقلال . والمحلق الثانى خاص
بالتعاون مع الدول العربية غير المستقلة وبالتالى غير المشتركة فى مجلس
الجامعة. أما الملحق الثالث والأخير فهو خاص بتعيين السيد عبد الرحمن عزام
الوزير المفوض بوزارة الخارجية المصرية كأول أمين عام للجامعة لمدة عامين.
وأشارت الديباجة إلى أن الدول ذات الصلة وافقت على الميثاق بهدف تدعيم
العلاقات والوشائج العربية فى إطار من احترام الاستقلال والسيادة بما يحقق
صالح عموم البلاد العربية.
فئة الحكام التنظيمية والإجرائية الخاصة بالعضوية، ومجلس الجامعة واللجان
الدائمة والميزانية، ومقر الجامعة وأمانتها العامة، والامتيازات
الدبلوماسية والانسحاب من الجامعة أو الفصل منها، وتعديل الميثاق، وأخيراً
إجراءات التصديق عليه وفئة الأحكام الموضوعية الخاصة بالتزامات الدول
الأعضاء قبل بعضها البعض، والتى شملت احترام كل دولة لنظام الحكم فى الدول
الأخرى وحل منازعاتها بالطرق السلمية وتنسيق سياساتها الخارجية بما لا يضر
بمصالح أى منها والتعاون فى رد الاعتداء عن أى من دول الجامعة والتعاون فى
مختلف الشئون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وبالفعل شكل المجلس لجنة لهذا الغرض عرضت مشروعاتها عليه فتولى إقرارها بعد
تعديل ما رآه مناسباً. وفى 22/3/1945 تم التوقيع على ميثاق جامعة الدول
العربية من قبل مندوبى الدول العربية عدا السعودية واليمن اللتين وقعتا على
الميثاق فى وقت لاحق. وحضر جلسة التوقيع ممثل الأحزاب الفلسطينية واصبح
يوم 22 مارس/آذار من كل عام هو يوم الاحتفال بالعيد السنوى لجامعة الدول
العربية.
ومن واقع تحليل ميثاق جامعة الدول العربية والمبادئ التى اشتمل عليها يمكن
تسجيل الملاحظات الثلاث الآتية: الأولى أن الميثاق جاء توفيقا بين
الاتجاهين القطرى والقومى مما انعكس على اعتبار الجامعة منظمة تقوم على
التعاون الاختيارى بين الدول الأعضاء فيها على أساس قاعدتى المساواة
والاحترام المتبادل للاستقلال، كما انعكس على وضعها كمنظمة بين الحكومات
وليست سلطة فوقية تعلوها. والثانية أن الميثاق جسد حالة من التوافق السياسى
والرضاء العام بمعنى ان الجامعة لم تنشأ من خلال قيام قوة إقليمية مسيطرة
بفرض إرادتها على الآخرين بل جاءت ثمرة لمجموعة من التوازنات بين الأطراف
المعنية. والثالثة أن مبدئى السيادة والمساواة رتبا الأخذ بقاعدة الإجماع
فى التصويت واختيارية نظام الأمن المشترك وحل المنازعات بالطرق السليمة.
ومثل هذا الرضاء العام كأساس لبناء المنظمة كانت له إيجابية كما كانت له
سلبياته. أما أنه كان عاملا إيجابيا فلأنه حافظ على تماسك النظام وضمن له
مرونته وحال دون انفراد دولة واحدة أو عدد محدود من الدول بالسيطرة على
الجامعة. وأما أن له سلبياته فلأن قاعدة الإجماع أدت أحيانا إلى قدر من
الجمود والشكلية فى الأداء بحيث تحركت الجامعة بفعالية حيثما توفر
الإجماع لقراراتهما والعكس صحيح.
2- التطور بدأ السعى لتطوير الجامعة منذ تأسيسها الذى مثل حلا توفيقياً على ما تقدم
بين الرابطتين القومية والقطرية، وساعد على ذلك أن ميثاق جامعة الدول
العربية لم يغلق الباب فى وجه تعزيز الرابطة التى أنشأتها وجسدتها الجامعة،
وأوجد فى هذا السياق آلتين محتملتين للتطوير: الأولى آلية تعديل الميثاق
ذاته وذلك بالإشارة فى المادة 19 منه الى جواز تعديله بأغلبية الثلثين لجعل
الروابط بين الدول الأعضاء أمتن وأوثق وكذلك لإنشاء محكمة عدل عربية .
والثانية آلية توثيق الروابط التى أوجدتها بين دولتين أو أكثر من دولها.
على ضوء ذلك شهد الواقع العربى محاولات لاختبار الآليتين السابق الإشارة
إليهما فى عدة مجالات منها المجال السياسى والمجالان الاقتصادى
والإستراتيجي والمجال القانونى والمجال الإدارى.
أ-سياسيا لوحظ مع بدء اجتماعات مجلس الجامعة عدم وجود لجنة تضطلع بالنظر فى الشئون
السياسية التى تعد مجالا من مجالات أنشطة الجامعة حيث خلت المادة الثانية
من الميثاق فى ذكرها اللجان الدائمة الست من لجنة تختص بالقضايا السياسية .
وعلى حين فسر البعض إشارة الميثاق للجان الست الدائمة على أنها إشارة
حصرية. ذهب آخرون إلى أنها وردت كنماذج وكان رجحان الرأى الأخير هو السند
القانونى لتأسيس لجان أخرى منها اللجنة القانونية واللجنة الدائمة للإعلام
ولجنة الشئون الإدارية والمالية فضلا عن اللجنة السياسية نفسها.
تشكلت اللجنة السياسية فى 30/11/1946 مع احتدام الصراع الدائر فى فلسطين مع
قوى الصهيونية وبروز الحاجة إلى تفعيل المشاورات السياسية بين الدول
الأعضاء والتنسيق بين مواقفها فى هذا الصدد وعلى حين نص قرار التشكيل على
أن تكون العضوية فى اللجنة على مستوى وزراء الخارجية فإنه بعد خمس سنوات من
عمل اللجنة أى فى عام 1951 أصدر مجلس الجامعة قرارا بفتح العضوية لرؤساء
الحكومات ورؤساء وفود الدول لدى الجامعة حسب مقتضى الحال . وكان أهم ما
أنجزته اللجنة من أعمال: بلورة معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى،
والإعداد لجدول أعمال القمم العربية ورفع تقاريرها إلى اجتماعات تلك القمم،
وهو ما تحقق بالفعل فى القمم الخمس الأولى فضلا عن تنسيق المواقف العربية
من بعض القضايا الدولية.
على صعيد آخر منذ انعقدت أول قمة عربية فى القاهرة عام 1964 على خلفية قيام
إسرائيل بتحويل مجرى نهر الأردن، واتخاذها قرارا بدورية انعقاد القمم
العربية سنويا، وهذا المطلب يمثل مطلبا عربيا متكررا خاصة مع تنامى الدور
الذى باتت تلعبه مؤسسة القمة على مستوى النظام العربى وتعدد أبعاد هذا
الدور وتشعبها، وذلك بدءا من محاولتها ( أى القمة ) إنشاء مؤسسات سواء نص
عليها الميثاق أو لم ينص من قبيل محكمة العدل العربية وآلية لتسوية
المنازعات بين الدول العربية والوقاية منها.
ومعالجة فكرة الاتحاد العربى التى قدمتها ليبيا مروراً بسعيها إلى تعديل
ميثاق جامعة الدول العربية وإدراجه لأول مرة على جدول أعمال قمة الرباط عام
1974 ثم توالت مناقشته فى عدة مؤتمرات لاحقة، والحديث عن تطوير الجامعة
تحديدا من المنظور الهيكلى أو الإدارى والمنصب بالأساس على الأمانة العامة،
وانتهاء بإثارتها موضوع تطوير المنظمات العربية المتخصصة فى قمة عمان عام
1987 وقرار المجلس الاقتصادى والاجتماعى على أثر ذلك بتقليص عدد المنظمات
القائمة بدمج بعضها وظيفيا، بحيث لم يحتفظ بكيانه من المنظمات العربية
المتخصصة سوى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والمنظمة العربية
للتنمية الإدارية ومنظمة العمل العربية .
وبعد ستة وثلاثين عاما من قرار أول قمة عربية بدورية الانعقاد اتخذت قمة
القاهرة المنعقدة فى أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000 قرارا ينص على إقرار هذا
المبدأ وإدراجه فى ملف مكمل للميثاق . وكان نص القرار هو التالى: يقرر
القادة العرب وهم يلتقون فى هذه المرحلة الدقيقة اعتماد الآلية الخاصة
بالانعقاد الدورى المنتظم للقمة العربية والتى وافق عليها مجلس جامعة الدول
العربية فى دورته الأخيرة (114) وأقر صيغتها النهائية اجتماع وزراء
الخارجية العرب التحضيرى لهذه القمة ..
ويعبر القادة العرب عن ثقتهم فى أن الانعقاد الدورى المنتظم للقمة العربية
سوف يسهم فى دعم العمل العربى المشترك فى كافة المجالات لا سيما المجال
الاقتصادى.." وكما يلاحظ فإنه مثلما كانت القضية المركزية أى قضية الصراع
العربى - الإسرائيلى هى المحرك لعقد أول قمة عربية لمواجهة الأطماع
الإسرائيلية فى المياه العربية، فإنها كانت هى الداعى لمأسسة القمة واعتماد
دوريتها على أثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية فى 28 سبتمبر/أيلول 2000
وتصاعد سياسات القمع الإسرائيلى بشكل غير مسبوق فى محاولة لإخمداها.
ب- اقتصاديا واستراتيجيا ربط فيما بين المجالين الاقتصادى والاستراتيجى (أو الأمنى) من خلال معاهدة
الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى التى وقعت فى عام 1950، وهو ما يمثل
ادراكا مبكرا لتعدد أبعاد الأمن وتجاوزها البعد الحمائى أو العسكرى.
فمن ناحية، نصت المعاهدة فى مادتها السادسة على تكوين مجلس للدفاع المشترك
يستطيع اتخاذ قرارات ملزمة لجميع الاعضاء بأغلبية الثلثين مما عد فى حينه
نقلة نوعية تعالج النقطة الخاصة باشتراط الاجماع فى قرارات الجامعة، وعدم
إلزام القرارات التى تتخذ بالاغلبية لغير الموافقين عليها. وفى واقع الامر
فلقد تضافرت جملة من العوامل الاقليمية والدولية التى يسرت اتخاذ هذه
الخطوة المتقدمة فى إطار تطوير الجامعة اقليميا.
كان هناك العدوان الفرنسى على سوريا ولبنان عام 1945 وغياب آلية عربية
للتعامل معه على نحو ألجأ الدول العربية لرفع الموضوع الى الامم المتحدة.
وكانت هناك حاجة للتكتل العربى فى مواجهة الخطر الاسرائيلى بعد قيام الدولة
اليهودية عام 1948. ومما له صلة بهذا الموضوع ان سوريا كانت قد تقدمت
باقتراح لعقد معاهدة تحالف سياسى عسكرى بين دول الجامعة عام 1948، وأحيل
اقتراحها للجنة السياسية التى شكلت بدورها لجنة خاصة عرفت باسم لجنة
"التضامن الجماعى" تلقت أفكارا ومشروعات من كل من لبنان ومصر والعراق
وسوريا، وكان إبرام المعاهدة من ثمارها.
ودوليا برز اتجاه عربى عبرت عنه الولايات المتحدة بالاشتراك مع كل من فرنسا
وبريطانيا فى "الإعلان الثلاثى" كان هدفه اخضاع أولويات الصراع
العربى-الاسرائيلى لأولويات الصراع بين المعسكرين الشرقى والغربى من خلال
ادماج اسرائيل مع الدول العربية فى نظام دفاعى شرق أوسطى عرف باسم منظمة
الدفاع عن الشرق الاوسط، وبالتالى كان لابد من مواجهة هذه الضغوط عبر بلورة
هوية قومية استراتيجية للدول العربية يظللها ويحتويها نظام قومى له سنده
الأمنى مما يميزها