لا حديث هذه الأيام في كل البيوت التونسية إلا عن الرضيعة سارة بعد أن عادت إلى أهلها بمساعدة ثمينة من برنامج المسامح كريم الذي يقدمه عبد الرزاق الشابي على شاشة القناة الفضائية حنبعل.
من حق عبد الرزاق الشابي أن يكون أسعد مواطن تونسي هذه الأيام لأنه من خلال المساعدة الثمينة التي قدّمها للأسرة المفجوعة سرّع عملية العثور على الطفلة المختطفة بأن جعل من قضيتها قضية رأي عام، وعرف بأسلوبه المعهود كيف ينتزع تعاطف كل التونسيــين مع الأم الملتاعة وكيف يقتلع بدموعها الغزيرة صخور اللامبلاة التي تجثم على صدور البعض منا فتجعلهم لا يهتمون إلا بذواتهم الصغيرة ولا يقيمون وزنا لمآسي الآخرين.
عبد الرزاق الشابي الذي أراد البعض أن يجعل منه أضحوكة فتندّروا من أسلوبه في احتواء مآسي العائلات الفقيرة في برنامجه الأكثر مشاهدة على الإطلاق، لم يهتزّ ولم يتغيّر ولا شكّ في أنه كان يتألّم في صمت ويقاوم سهام السخرية التي يرشقه بها الآخرون فحقق من خلال قضية الرضيعة المختطفة ما عجز عن إنجازه هؤلاء الآخرون...
لقد بات واضحا أن بساطته وعفويته وانحيازه المفرط لدموع الفقراء والمساكين من أبناء هذا الوطن كلها ملامح مميزة لتجربة تلفزيونية جديدة متفرّدة لم يتعودها الناس...فقد أصابت اللغة الخشبية المشاهدين في مقتل بعد نصف قرن من مشاهدة تلفزيون قلّ وندر أن خاطبهم بما يفهمون، إنه فوقهم دائما ولم يكن يوما معهم لأنه مصاب بجنون العظمة، ولم يحاول التخلص من الوصاية التي يفرضها على الناس الذين حرّرتهم القصاع البيضاء المنتشرة فوق سطوحهم من هيمنة الفكر الواحد والعقل الواحد والوفاق المشبوه فظلّ يرى الدنيا بالأسود والأبيض فقط رغم مضيّ عقود طويلة على اختراع الألوان الطبيعية تلفزيونيا وآلات التحكم عن بعد تلك التي تيسّر لك مشقة إطفاء الجهاز إذا لم يرق لك ما فيه.
لقد عاش المشاهدون على مدى أسابيع مرّت كالدّهر، مشاعر الخوف والانتظار والترقب، وصارت الرضيعة المخطوفة التي وصلت صورتها إلى كل الناس عبر شاشة المسامح كريم بنت كل التونسيين بل كان من الصعب على كل ذي قلب رحيم أن يحبس دمعته وهو يرى أمها الملتاعة تبكي من وراء بلور الشاشة وأصبح البحث عن الطفلة المفقودة هـمّا جماعيا حقيقيا في زمن يجمع فيه الناس عادة على الصمت والمناورة والانتظار خلف الستار...
لقد أثبتت قضية الرضيعة سارّة التي انتهت والحمد لله نهاية سعيدة بفضل براعة عبد الرزاق الشابي وحنكة الحرس الوطني ووشاية جار بجارته، أن التلفزيون يصلح حقا لأشياء أخرى غير البروباغاندا العقيمة وحشو رؤوس العباد بالشعارات الجوفاء ونفخهم بأحاسيس الرضى والفخر، فهو قادر مثلا على لمّ الشمل وإحياء قيمة التضامن وإشاعة الخير والفضيلة. فقد كنت ترى في عيون الناس وهم يتلقفون خبر العثور على سارّة فرحا عفويا تلقائيا لا تحركه نوازع الجشع ولا تلونه مشاعر الزيف والخديعة، مرّت عقود لم نستمع فيها لمثل تلك الزغاريد التي تعالت في بنزرت وفي باب سويقة يومها ، زغاريدِ الفرح المتصاعد من أعماق الناس المتحابين بعد أن أصمّت الآذانَ زغاريدُ الانتهازية والوصولية والطمع.
هنيئا لعبد الرزاق الشابي بهذا العمل التلفزيوني الذي يُغبط عليه، فقد أعاد لنا الثقة بعد يأس وملل في أن صاحبة الجلالة يمكن أن تكون سلطة رابعة، وجعل من تلفزيون الواقع أداة طيّعة لإسعاد الملايين من البسطاء، ونافذة تطلّ منها العامّة على العامّة بعيدا عن زحام الحافلات الصفراء وعرق الطوابير الطويلة، لقد أعاد المسامح كريم إلى الشعب التونسي جزءا من التلفزيون الذي سرق منه ولم يجده منذ سنوات...