المعروف عن الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة الإسلامي في تونس، أن له
أكثر من خطاب بحسب المكان والجمهور الذي يجلس أمامه، لهذا لم يكن مفاجئا أن
تجرأ على القول لصحيفة بريطانية، إنهم (أي حزبه الإسلامي) لو وصلوا إلى
الرئاسة في تونس، فسيبلغون من التسامح درجة السماح بتقديم الخمور، وللنساء
بلبس ملابس البحر (المايوه). تصريح يصعب تصديقه، كيف يمكن أن يقبلوا بأن
تعري المرأة معظم جسدها في محل عام وهم في الوقت نفسه يرفضون للمرأة أن
تظهر شعر رأسها؟
مثل هذا التصريح المتحرر جدا، الذي لا نسمع مثله من الغنوشي في الصحافة
العربية، ربما لا يعدو كونه خطابا سياسيا موجها للغربيين، هدفه طمأنتهم بأن
الإسلاميين ليسوا مسؤولين عن ظاهرة النساء المنتقبات اللاتي يذرعن شوارع
لندن، ولا علاقة لهم بما يمارسه باسيج إيران أو حماس غزة.
ولأن تونس هي من أكثر الدول المتحررة، وصارت لديها ثقافة تؤمن بالحقوق
المتساوية، للنساء مثل الرجال، وتثمن الحقوق المدنية للأفراد، فإن حزب
الغنوشي صار يردد أنه «يريد دولة مدنية ديمقراطية تكفل الحريات العامة..
ولا يسعى مطلقا إلى السيطرة على السلطة». أليس هذا واضحا وكافيا؟ المتشككون
يعتقدون أن حزب النهضة، مثل بقية حركات الإسلام السياسي، عليك أن تسألها
عشرات الأسئلة التفصيلية حتى تفهم حقا ما تعنيه بهذه العبارات الفضفاضة،
وفي الأغلب تكتشف أنها حركات دينية ملتزمة بفكرها الأحادي، وليست ديمقراطية
أبدا. فالغنوشي الذي يتحدث كثيرا في هذا الموسم عن التزامه بالديمقراطية،
يرى أيضا أن الديمقراطيات الغربية هي أكبر عائق أمام عملية التحول
الديمقراطي في المنطقة العربية، ويعزو الفشل في الدول الإسلامية تاريخيا
إلى تمكن الغزو الغربي من الإجهاز على نمط الدولة السلطانية التي ورثت
الخلافة، بدءا بتنحية سلطان الشريعة، وإبدالها بالقانون الغربي، كما حصل في
معاهدة لوزان، التي فرضت على دولة تركيا التخلي عن الشريعة الإسلامية. فهو
من جانب يقول إنه مع دمقرطة العمل السياسي، ومن جانب آخر يعتبر الخلافة
السلطانية كانت النموذج الرائع الذي ذبحه النموذج الغربي!
وحتى لو كان الغنوشي صادقا في وعده، وواقعيا في القبول بالحريات، لدرجة
السماح بالبكيني وبيع الكحول، فهذا لا يعني أن حزبه، حزب النهضة الإسلامي،
يؤمن بنفس المفهوم وسيقبل بتطبيقه. ومن خلال ممارسات الأحزاب الإسلامية نجد
أن قواعدها محافظة، وقياداتها سياسية براغماتية، لكن تخضع لمقاييس جمهورها
وليس لخطابها الليبرالي الموجه للغرب، كما هو الحال مع الغنوشي.
وتصل الأمور بالتيارات المتشددة إلى استخدام القوة لفرض فكرها، فيتبرأ منها
قادة الحزب، بدعوى أن هناك «اختراقات في صفوف بعض هذه الجماعات الإسلامية»
من قبل أطراف تريد تشويه صورتها، في محاولة لإنكار حقيقة فكرها المتشدد.
وقد لجأت إلى ذلك الأحزاب الإسلامية في الجزائر، التي باعدت بينها وبين
الجرائم التي ارتكبت في التسعينات باسمها، لكن في الأخير صار واضحا أن في
داخل الجماعة متطرفين مصرين على تطبيق فكرهم.
هل ما يصرح به قادة النهضة حقيقي، «نطمح إلى تشكيل مجتمع حر ومنفتح وحديث،
يحظى كل مواطن فيه بنفس الحقوق»؟ لا ندري، لكن تجارب إيران والسودان وحماس
وحزب الله، تبنئ بعكس ذلك. وهذا لا يمنع من القول إن المجتمع الإسلامي في
حاجة إلى تيارات إسلامية تطور فكرا معتدلا ومتسامحا اجتماعيا، وواسعا من
الناحية السياسية، لا يتعارض مع مبادئ الإسلام الأساسية، كما فعلت الحركة
الإسلامية في تركيا، إنما الخطابات المزدوجة بهدف طمأنة الغرب، تؤخر فقط
اكتشاف حقيقة أنها لا تزال جماعات تريد الحكم، بغض النظر عن الحقيقة.
alrashed@asharqalawsat.com
---