ينتظر الشعب التونسي دستوره الجديد ليكون جاهزاً في 27 أبريل (نيسان) مثلما وعد بذلك رئيس المجلس التأسيسي (البرلمان) مصطفى بن جعفر. إقرار الدستور سيهيئ للانتخابات المقبلة التي يرجح أن تنتظم بين 15 أكتوبر (تشرين الأول) و15 ديسمبر (كانون الأول) المقبل. موعدان بالغا الأهمية في تونس التي لا تكاد تهدأ بين جلسة حوار سياسي وأخرى.
صياغة الدستور التي تأخرت عن موعدها ويفترض أن تكون جاهزة قبل 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، شهدت تجاذبات عديدة تتعلق خصوصاً بغياب مرجعية كونية حقوق الإنسان في نسخة الدستور الجديد، والجدل حول اعتماد الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً للتشريع أم لا، وهو السجال الذي حسمه زعيم حركة النهضة الإسلامية بإعلانه التخلي عن فكرة التنصيص على اعتماد الشريعة مصدراً للتشريع.
كما شهدت عملية صياغة مسودة مشروع الدستور خلافات كبيرة بين الكتل البرلمانية التونسية حول طبيعة النظام السياسي الذي سيتم اعتماده وصلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ونفوذ كليهما. وإن كانت حركة النهضة تدافع من أجل تبني النظام البرلماني المحض ومنح رئيس الحكومة جلّ الصلاحيات ليصبح منصب رئيس الدولة منصباً شرفياً تقريباً، يدافع آخرون عن النظام الرئاسي، تحسباً لقيام "ديكتاتورية برلمانية دينية".
مدنية الدولة... سجال لا ينتهيكبرى نقاط الخلاف في مسودة الدستور التونسي تتمثل في مدنيّة الدولة التي يقول المعارضون إنها "مهددة"، والتهديد هنا لا يعني أن مدنيّة الدولة غير منصوص عليها في الدستور، بل هي مذكورة في التوطئة، إنما بشكل مبهم دون تحديد لمفهوم المدنيّة بالضبط الأمر الذي يجعلها قابلة للتأويل ولمزاجية المشرع. من أمثلة هذا الابهام، التنصيص على أن مدنية الدولة قائمة على "ثوابت الإسلام" مثلما يشير إليه الفصل 15 من الدستور المثير للجدل. وفي رأي خبراء القانون الدستوري، يحتوي الفصل 15 من مسودة الدستور عديد الثغرات والمصطلحات الضبابية، إذ ينص على وجوب احترام المعاهدات الدولية إلا فيما يتعارض مع أحكام الدستور، وهو ما يثير تساؤلات حول إمكانية إلغاء معاهدات دولية وقعت عليها تونس سابقاً.
كما أن الفصل 148 الذي ينص على أنّ الإسلام دين الدولة وهو مبدأ "فوق دستوري" يحيل في رأي الخبراء "إلى أن هناك فصول ستكون أعلى من فصول أخرى وناقضة لها".
وعلى عكس انتظارات الحقوقيين ومكونات المجتمع المدني التي شاركت في ثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011، لا يتضمن الدستور التونسي الجديد حق المساواة بين المرأة والرجل بل ينص على أن المرأة "شريك للرجل".
الرئيس الحقوقي أول المنتقدينأولى الانتقادات لمسودة الدستور جاءت على لسان رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي الذي قال، وهو الحقوقي السابق المناضل في صفوف المعارضة لسنوات، إنه من الضروري تضمين الدستور كل"الحريات الفردية والجماعية بأكبر قدر ممكن من التدقيق"، داعياً الى ضمان هذه الحقوق "بصفة لا لبس فيها ولا تقبل التأويلات" وأن تكون "الاستثناءات" إن "وجدت حقيقية ومفيدة". وانتقد المرزوقي عبارة "وفق ما يضبطه القانون" التي وردت في نص مسودة الدستور معتبراً أنها "جملة رهيبة ومحملة بكل الأخطار" لأنها تتيح حسب قوله للمشرع "التصرف باسم القانون في حقوق التونسيين والتونسيات التي يضمنها الدستور وإفراغها من محتواها".
ولا يتضمن الدستور الجديد أي فصل يحيّد دور العبادة عن العمل السياسي والحزبي، في ظرف تعرف فيه تونس عمليات تجنيد للجهاد في سوريا من داخل المساجد ودعوات لـ"محاربة العلمانيين" صدح بها أئمة من على منابر خطب الجمعة ضد فنانين وصحافيين وحقوقيين ومعارضين، إلى جانب استغلال المساجد في الحملة الانتخابية الأخيرة عام 2011.
نقاشات فلسفية وأيديولوجية عميقة تمت في ظل اختلافات جوهرية مثلما تقول النائبة في التأسيسي لبنى الجريبي عن التكتل من أجل العمل والحريات. لكنها تستطرد أن المسودة تحتوي على إيجابيات أيضا تتعلق بـ "حرية المعتقد وعلوية القانون والمساواة بين المواطنين ولا مركزية الدولة والقرار السياسي التي تحول جميعها دون ديكتاتورية دينية في تونس".
دستور يهدد حقوق الإنسانلكن منظمة "هيومن رايتس ووتش" لديها رأي آخر أكثر حذراً، وسبق لها أن توجهت في رسالة بعثت بها إلى أعضاء المجلس الوطني التأسيسي في تونس بضرورة "تعديل بعض فصول مشروع الدستور التي تمثل تهديدًا لحقوق الإنسان". وقالت إن الأحكام القانونية المثيرة للقلق تتمثل في "وضع الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها تونس، والحصانة القضائية التي يتمتع بها رئيس الدولة، وعدم وجود ضمانات تكفل استقلالية القضاء، ووجود صياغات غامضة من شأنها تهديد الحقوق والحريات". وحتى النسخة الثانية من مسودة الدستور لم تنل رضا نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "هيومن رايتس ووتش" إيريك غولدستين الذي قال: "تحتوي النسخة الثانية لمشروع الدستور على صياغة أفضل من تلك التي كانت توجد في النسخة الأولى في ما يتعلق بحرية التعبير وحقوق المرأة.
لكن يجب على المجلس الوطني التأسيسي معالجة ثغرات أخرى في نص الدستور قد يستخدمها القضاة والمشرعون لتقييد الحقوق". وحذرت المنظمة من الفصل 15 الذي ينصّ على أن "احترام المعاهدات الدولية واجب فيما لا يتعارض مع أحكام هذا الدستور"، مؤكدة أن هذه الصياغة "قد تدفع القضاة والمشرعين إلى تجاهل هذه المعاهدات بذريعة أنها تتعارض مع الدستور الجديد".
وأثارت الحصانة القضائية لرئيس الجمهورية أثناء أدائه لمهامه المضمنة في مسودة الدستور التونسي حفيظة المنظمات الحقوقية التي قالت إن هذا البند يمنح حصانة حتى في حال ارتكاب "الجرائم الدولية، بما في ذلك الجرائم التي يغطيها نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، وكذلك أعمال التعذيب والاختفاء القسري".
فصول تمييزية ويبدو الفصل التمييزي الأكثر تناقضاً مع "ثورة ياسمين" تونس ما ينص "على أن يكون رئيس الجمهورية مسلمًا" وهو ما يتعارض مع الفصل 5 من الدستور الذي ينصّ على أن "كل المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون دون تمييز بأي شكل من الأشكال". ولإقرار مسودة الدستور، يتعين الحصول على موافقة ثلثي أعضاء المجلس التأسيسي (217 عضواً) أي 144 صوتاً.
ومن المرجح، طرح الدستور على الاستفتاء الشعبي في حال لم يحظ بموافقة ثلثي الأعضاء وهو ما تسعى إلى تلافيه حركة النهضة الإسلامية التي تستحوذ على 89 مقعداً في التأسيسي.
http://www.24.ae/Article.aspx?ArticleId=11075#.UVAYim59Q2k.twitter