بينما تعلو جلبة العاطفة و غوغاء الجهل و جعجعة الحميّة العمياء يظلّ صوت العقل و الحكمة و المنطق أخفت الأصوات في مرحلة ما بعد الثورة.
تنطلق الألسن بالثرثرة الجوفاء فتخبز أرغفة ساخنة من الأحكام و الآراء السطحيّة تتلقّفها أفواه عقول نؤومة الضحى و الظهر و المساء و فتات إرادات منتهى غايتها العيش لا إراديّا.
و نتاجا لهذا تروج الأوهام و التحاليل المغلوطة و التفاسير الحاجبة للواقع المُسدلة للدعة و السكون على النفوس و المدثّرة لها بعباءة الرضا الشخصي و الفخر الزائف.
أفكار ثلاث أو قل هي مغالطات تزدهر تجارتها في سوق الآراء و التصوّرات السياسيّة و يتزايد عليها كثير من السياسيّين و المحلّلين و الإعلاميّين وسط حشد من الناس جذبهم بريق البضاعة و غناء الباعة الشجيّ.
و هي آراء لا تصمد للتمحيص و لا تتماسك إذا ما تناولها العقل و حملها إلى مخبره و إنما يُراد بها السيطرة على جماهير من بُله و عميان.
المغالطة الأولى
أمّا أوّل هذه المغالطات فهي اتّهام منتقدي الفريق الحاكم بالخروج عن الجماعة و حثّهم على احترام إرادة الشعب و الإذعان لها و عدم المكابرة. و تتوجّه الانتقادات لاذعة لهؤلاء المعارضين فتسلقهم الألسنة سلقا فهم النّاعقون خارج السرب، الواقفون ضدّ إرادة الشعب، المتمسّكون بأفكار قالت فيها الأغلبيّة القول الفصل، المدافعون على باطل زُهق بعد أن دمغه الحقّ. فيستقرّ في ذهن العديد أن هذه الجماعة ظالمة غاشمة مثيرة للفتن تبغيها عوجا.
و الحقيقة أنّ في هذا خلط كبير. إنّ احترام نتائج الانتخابات يكون بالإذعان للشرعيّة الناشئة عنها و عدم الدعوة للعصيان المدني أو للإطاحة بالسلطة القائمة. أمّا أن يستبدل الفرد مبادئه أو أفكاره و مواقفه بأخرى يتبنّاها ممثلو الأغلبيّة فهذا ليس من احترام الانتخابات في شيء.
إنّ الانتخابات طريقة مدنيّة حضاريّة لتفويض السلطة الشرعيّة و ليست وسيلة لتبيان الحقيقة أو الفصل في وجاهة الأفكار لا و لا تُقام للحسم في المواقف و التصوّرات الفرديّة و توحيدها.
إنّ الحقيقة لا ينتجها صندوق اقتراع و لا تبرهنها أغلبيّة و إنّ وجاهة الفكرة لا تحتاج إلى عدد. فكم من رأي واهم لم يُغنِ عنه كثرة تتقاسمه و تبدّد بصواب لم يُؤمن به سوى النزر القليل أو حتّى الفرد الواحد. أما حوكم غاليلي و حُبِس في منزله حتّى مماته لأنّه قال أنّ الأرض تدور و الجمع محيط به ساخر منه متعجّب من عتهه و جهله؟...
المغالطة الثانية
أمّا المغالطة الثانية فهي تفسير عدم احترام القوانين و الإعتداء على حقوق و سيادة الدولة بضعف هيبتها. و لئن كان جليّا أنّ هيبة الدولة قد تردّت فإنّ هذا نتيجة و ليس سببا. أمّا السّبب فهو ضعف مفهوم الدولة بل انعدامه في أذهان الكثير منّا. فالواقع أنّ معظمنا لا يزال يعيش بذهنيّة تغيب عنها فكرة العقد الاجتماعي و العيش المشترك بما يستوجب من تنازلات في ظاهرها حدٌّ من الحريّة و في مضمونها تمتُّع أكبر بها.
إنّ من النّاس من يؤتي الزكاة عن طواعيّة بل يسّابق لدفعها و هو متهرّب من الضرائب سارق لها و لا تًطرفُ له عين و لا تختلج له نفس.
بل إنّ الإضرار بالممتلكات العمومية و محاولة الانتفاع منها بغير حقّ و التهرّب من الواجبات الوطنيّة هو دليل فطنة و حنكة و ذكاء عند أغلب الناس يلاقي كلّ الإجلال و الإعجاب. فكم أنصت الناس بكلّ إعجاب لفرد يروي بسالته في التمتّع بإعانة أو امتياز عمومي بغير وجه حقّ. و كم حسد الناس شخصا أبدع في انتهاك حقّ الدولة ليحقّق مصلحة فردية دون أن يطاله القانون. و لعلّ آخر ما جادت به الأذهان ما نسمعه من حين لآخر من مطالب لفرض الإتاوات على المداخيل المتأتيّة من منطقة معيّنة لصالح أهلها أو الأحقيّة في الشغل فيما جاور من مؤسّسات بدون أدنى اعتبار للكفاءة و الاختصاص.
و الأمثلة تستعصي على التعداد في هذا المجال بل إنّ هذه الذهنيّة هي من أكبر القواسم المشتركة للتونسيّين.
إنّ هذه السلوكياّت إنّما تبرهن على عدم استبطان مفهوم الدولة لدى الكثيرين و اعتبارها قوة متسلطّة تحدُّ من الحريّة و تعتدي على الأفراد و ليست هياكل تنظيميّة حامية للعيش المشترك تعمل على تطوير المجموعة و الحفاظ على الوطن.
إنّ العمل المجدي اليوم نراه في ترسيخ مفهوم الدولة و تعميق فكرتها و مبدئها في أذهان الناس لا في التباكي على غياب هيبة الدولة. غير أن وجود حزب النهضة في الحكم قد لا يدفع في هذا الاتّجاه لما يحصل من خلط بين الهويّة الدينيّة و الانتماء للدولة. فيذهب في ظن الناس أنّ الولاء و الاحترام للدّين وحده و إنّ احترام الدولة يكون ما دامت الدولة تعكس القوانين الدينيّة.
المغالطة الثالثة
و هي الاستغراب من استفحال الممارسات المنحطّة و النزق و الإجرام كقطع الطريق و الاعتداء على الناس، إلخ و إرجاع سببها لمؤامرات و أياد خفيّة و أشباح و تنزيه الشعب التونسي الذي قام بالثورة عن هذا.
و هذا هو الزور و البهتان فالحقيقة أن عيوبنا كثيرة و كبيرة و نقائصنا متعدّدة متجذّرة. و آي ذلك تربّع الديكتاتوريّة و الفساد على عرش بلادنا القرون الطوال.
إنّ في عدم الإعتراف بالعيوب و الإغراق في الفخر و الشوفينيّة تخدير للشعب و تعمية له. و إنّ أوّل الديكتاتوريّة، دغدغة النرجسيّة و حجب العيوب و اختلاق أعداء من الحاسدين المغتاظين المتحرّقين لإفشال نجاحنا. فإذا ركن العقل للسبات و لم ينهض للعيوب يتمحصّها و يتدبّرها استتبّت الديكتاتوريّة.
لأنّ طريق العقل و الحكمة يفضي لا محالة للتغيير و الرقيّ.
وليد الشريف