2010-03-02
بات واضحا أن الحركة الإسلامية أصبحت واقعا لا يمكن تجاوزه، وحقيقة اجتماعية لا يمكن تجاهلها، لذا أصبح المطلوب اختراقها أو استقطابها، والعمل على إعادة تشكيل برنامجها السياسي. فالحركة الإصلاحية الإسلامية، بما توفر لها من تأييد شعبي واسع، أصبحت جزءا محوريا من تركيبة المجتمعات العربية والإسلامية، وأصبحت شعبيتها تتعمق مع مرور الوقت، وتتزايد في بعض المراحل، مما جعل فكرة التخلص منها غير عملية.
هذا جعل الغرب يفكر في كيفية التعامل مع الحركة الإصلاحية الإسلامية، وتوجهت مراكز الأبحاث الغربية إلى دراسة تلك الحركة بصورة مكثفة. وفي نفس الوقت، بدأت النخب الثقافية العلمانية في البلاد العربية والإسلامية، تدرك أن استئصال الحركة الإصلاحية الإسلامية غير ممكن، والتعامل معها أصبح واقعا لا مفر منه. أما أنظمة الحكم، فرغم إدراكها لاستحالة التخلص من الحركة الإسلامية، إلا أنها مازالت تعيش هواجس الخوف منها، لأنها يمكن أن تكون بديلا عنها في المستقبل.
الدول الغربية لها موقف مختلف عن الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية، فالأخيرة تريد البقاء في الحكم بأي ثمن، ولكن الدول الغربية يمكنها التعامل مع نخب حاكمة جديدة، إذا ضمنت حماية مصالحها. لذا بدأ التفكير في الصيغة التي تحقق المصالح الغربية إذا وصلت حركة إسلامية للحكم، وبدأ التفكير في نوعية الحركة الإسلامية التي لا يمثل وصولها للحكم خطرا على المصالح الغربية في المنطقة. ففتح باب الجدل حول ما سمي بالإسلامي المعتدل، أي الإسلامي المعتدل من وجهة النظر الغربية، وليس من وجهة نظر الشعوب العربية والإسلامية.
وفي طريق البحث عن الإسلامي المعتدل غربيا، بدأت تتشكل ملامح الحركة الإسلامية المقبولة غربيا، والتي يمكن أن تمثل نموذجا يتم تسويقه للحركات الإسلامية الأخرى، كنموذج يتم دعمه غربيا، مما يعني أن من يتبناها يمكن أن يجد دعما غربيا، أو على الأقل لا يجد معارضة غربية لوصوله للحكم.
ولكن الأمر لم يتعلق فقط بالمصالح الغربية، فليس المطلوب فقط من الحركة الإسلامية أن تحمي بعض المصالح الغربية في المنطقة، مثل المصالح الاقتصادية والتجارية، وليس المطلوب فقط قبول وجود دولة الاحتلال الإسرائيلي، بل اتضح أن المطلوب أيضا تبني رؤية تتفق نسبيا مع التصور السياسي الغربي، فالأمر لا يتعلق بسلوك الحركة الإسلامية تجاه الغرب فقط، بل يتعلق أيضا برؤيتها وسياستها الداخلية والخارجية.
مصالح الغرب ليست في احتياجاته الاقتصادية والتجارية فقط، ولكن مصالح الغرب تتعلق أيضا بنشر رؤية سياسية بعينها وتعميمها في مختلف دول العالم. فلدى الغرب معيارا ونموذجا سياسيا، يريد تعميمه على مختلف دول العالم، ثم يمكن لكل طرف أن يتميز داخل هذا النموذج المعد سلفا.
لذا تحاول الجهات الغربية معرفة موقف الحركة الإسلامية من عدة قضايا رئيسة، مثل المرأة والأقليات وحقوق الإنسان، وحرية تغيير الدين، والموقف من أتباع العقائد غير السماوية، وغيرها من القضايا. وتعتبر تلك القضايا مؤشرا على بنية التصور السياسي للحركة الإسلامية، وعليه يتم قياس موضع الحركة الإسلامية من النموذج السياسي الغربي، طبقا لتلك المعايير. ويتحدد طبقا لذلك، مدى تعارض الحركة الإسلامية، مع المعيار الغربي الليبرالي، بوصفه المعيار الذي يتم فرضه عالميا.
ونظرا لوجود تعارض حضاري بين المنظومة الحضارية الإسلامية والمنظومة الحضارية الغربية، لذا أصبح الحل في التفرقة بين المعايير الحاكمة للمجال السياسي، وتلك التي تحكم المجال الاجتماعي والثقافي. وبدأ الترويج لفكرة خصوصية المجال السياسي، وأنه يخضع لمعايير عالمية يتفق فيها جميع البشر. وكأن هناك حاجات أساسية لدى كل البشر، وتلك الحاجات تحتاج لتصميم النظام السياسي طبقا لقواعد عالمية متفق عليها، وهي في الواقع القواعد التي أسستها الحضارة الغربية، أي قواعد الليبرالية السياسية الغربية.
قليل من العلمانية يصلح السياسة
والمتابع لتحولات تلك الفكرة، والتي تؤسس لما سمي بدمج الحركة الإسلامية في المجال السياسي المعاصر، يرى أن مدخلها يبدأ من فكرة العلمانية الجزئية. فالعلمانية كمنظومة فكرية تقوم على استبعاد دور الدين من المجال العام، وحصره في المجال الفردي والخاص. ولكن العلمانية طبقت بأكثر من تصور، فكانت العلمانية الجزئية تستبعد الدين من المجال العام، ومن الدستور والقانون والنظام السياسي والدولة، وتترك مساحة لدور الدين في الحياة الاجتماعية والفردية الخاصة.
ولكن بجانب العلمانية الجزئية ظهرت العلمانية الشاملة، والتي حاربت دور الدين حتى في المجال الاجتماعي والفردي، وبالتالي أدت إلى غياب شبه كامل للدين، وهو ما حدث في معظم الدول الأوروبية، ولكن العلمانية الجزئية سمحت باستمرار وجود الدين في حياة الأفراد، بل وسمحت أيضا بتأثير الدين على السياسة، بحكم تأثيره على الأفراد، كما يحدث في أمريكا.
وعليه تصبح العلمانية الجزئية هي الحل، فهي وسيلة لبناء النظام السياسي طبقا لتقاليد النموذج السياسي الغربي، وتسمح بتطبيق الليبرالية الديمقراطية، وحماية نموذج الدولة القومية القطرية، دون معاداة الدين، ودون حصار لدور الدين في الحياة الاجتماعية والفردية.
وهذا النموذج العلماني الجزئي يمكن تطويره، ليصبح حاميا للدين ولممارسة العقائد الدينية، وحاميا لحرية العبادة والاعتقاد، طبقا لقواعد الحرية الفردية الليبرالية. كما يمكن للنموذج العلماني الجزئي، أن يراعي بعض القواعد الدينية عند وضع القوانين، خاصة إذا كانت تمس حياة الفرد، وتمس دينه واعتقاده. وبهذا لا تكون العلمانية الجزئية في حرب مع الدين، بل يحدث تقسيم نفوذ بين العلمانية والإسلامية، فتصبح العلمانية حاضرة في السياسة، والإسلامية حاضرة في المجال الاجتماعي والثقافي والفردي.
والعلمانية الجزئية لا تتعارض مع كون الدين مكون للهوية، ولا تعترض على أن يكون الدين مؤثرا على مصادر التشريع، فالدين يمكن أن يقوم بدور من خلال تأثيره على الأفراد، مما يجعله مؤثرا على الرأي العام. وهو ما يفتح الطريق أمام دور معقول للدين، فيتم تجنب الصدام بين العلمانية والإسلامية.
تسويق العلمانية الجزئية
حتى يتم إقناع الحركة الإسلامية بالعلمانية الجزئية، يتم تسويقها بصور مختلفة. فهي مرات تسوق بوصفها نوعا من الإجراءات والأدوات الهادفة للتمييز بين العمل السياسي والعمل الديني، ومرات تسوق بوصفها معايير دولية ضرورية للنظام السياسي الناجح. ولكنها في أغلب المرات تسوق بوصفها الطريقة الوحيدة لتحقيق المساواة بين الناس جميعا، مما يعني أن أي منظومة أخرى، ومنها المنظومة الإسلامية، لن تحقق المساواة بين الجميع، بقدر ما يمكن تحقيق تلك المساواة من خلال المعايير السياسية الليبرالية.
وهنا يأتي دور المواثيق الدولية التي عملت الدول الغربية على جعلها دستورا دوليا عبر العقود الماضية. فتلك المواثيق أصبحت تمثل الإطار الحاكم لأي نظام سياسي، رغم أن الواقع يؤكد على أن كل حلفاء الغرب من النخب الحاكمة يخالفون تلك المواثيق، ولكن أي نظام حكم يأتي بغير رغبة الغرب، سوف يتم ابتزازه بتلك المواثيق الدولية، فإذا رفض الخضوع لها، سيصبح نظاما مارقا.
وضمنا نجد أن الغرب يحاول وضع قواعد محددة للشرعية الدولية، وهي شرعية غربية في الواقع، بحيث يصبح أي نظام حكم خاضع لتلك الشرعية الغربية. ويصبح من الصعب أن تصل للحكم قوى سياسية لا تحظى بالقبول الدولي، أي الغربي. كما أن الدول الغربية هي السند الرئيس للنخب الحاكمة المعادية للحركة الإسلامية، وبالتالي فهي قادرة على تعضيد تلك النخب لمنع الحركة الإسلامية من الوصول إلى الحكم.
فالدول الغربية تملك العصا، والمتمثلة في الحصار والتحالف مع الاستبداد المحلي، وتملك أيضا الجزرة وهي السماح للحركة الإسلامية بالوصول للحكم، ولكن ثمن الجزرة، ضمن أثمان أخرى، هو القبول بالعلمانية الجزئية.
الإسلامية الجزئية
وفكرة العلمانية الجزئية تسمح بتسويق فكرة الإسلامية الجزئية. حيث يتم الترويج لفكرة أن المرجعية الإسلامية هي مرجعية أخلاقية عامة، وهي مخزن للقيم. وعليه تصبح الفكرة الإسلامية هي مصدر الأخلاق والقيم، وتصبح العلمانية الجزئية هي مصدر قواعد العمل السياسي، أي مصدر الدستور. وتصبح الإسلامية الجزئية وسيلة لنشر الأخلاق الإسلامية في المجتمع وفي حياة الفرد، كما تصبح وسيلة لنشر الأخلاق الإسلامية في المجال السياسي والاقتصادي، حيث تتحول الفكرة الإسلامية إلى نموذج أخلاقي، يتم دعم الحياة العامة به، وبصورة تجعل تلك الحياة منضبطة أخلاقيا بالإسلامية الجزئية، ومنضبطة قانونيا بالعلمانية الجزئية.
وبهذا يتم تقسيم الأدوار بين العلمانية الجزئية والإسلامية الجزئية، ويمكن بعد ذلك الحديث عن أهمية التكامل بين العلمانية الجزئية والإسلامية الجزئية، حيث تهيمن كل فكرة على مجال، ويحدث تكامل بينهما، على أساس أن العلمانية الجزئية هي نظام سياسي، والإسلامية الجزئية هي نظام اعتقادي وأخلاقي وقيمي. ويتم الترويج لفكرة دمج العلمانية الجزئية في المشروع الإسلامي، بوصفها النموذج السياسي الحديث، والذي يحقق المعاصرة والحداثة السياسية، ويناسب نموذج الدولة القومية القطرية القائم، ويحظى بدعم غربي.
إسلامي نصف الوقت
لقد أصبح مطلوبا على المستوى الدولي، لشغل وظيفة الحاكم في أي دولة عربية أو إسلامية، إسلامي جزئيا وعلماني جزئيا، ويحظى بدعم شعبي، ويتوافق مع المعايير الغربية السياسية، ويمثل نموذجا جيدا للديمقراطية وعدم الفساد، فيصبح بديلا معقولا للأنظمة الفاسدة المستبدة الفاقدة لأي تأييد شعبي. ومطلوب من الإسلامي الجزئي، أن يكون علمانيا لنصف الوقت، وإسلاميا لنصف الوقت، فليس المطلوب منه أن يكون علمانيا لكل الوقت، لأنه سوف يفقد شعبيته، ويتحول إلى مستبد آخر، فيصبح فاسدا. ولكن المطلوب منه أن يكون علمانيا في السياسة، وفيما بعد السياسة يمكنه أن يكون إسلاميا كما شاء.
وترى العديد من الدوائر الغربية، أن ذلك النموذج تحقق في حزب العدالة والتنمية التركي، ولهذا يروج للحزب بوصفه ممثلا للمواصفات المطلوبة في الإسلامي الجزئي. فمن يقبل بهذا النموذج، يمكنه التفاوض على الوظيفة، وبشروط مغرية. فالمعروض هو مقعد السلطة، في بلاد تعرف نماذج نادرة للاستبداد. وقد يكون من الخير تغيير الاستبداد بالديمقراطية، وتغيير الفساد بالشفافية، حتى وإن لم يتم تغيير العلمانية بالإسلامية، فلكل صفقة ثمنها.
لذا يمثل حزب العدالة والتنمية التركي التجربة الحرجة، فقد يكون حزبا اشترى العلمانية الجزئية مؤقتا، ليحصل على التأييد الغربي، ويؤسس لنظام ديمقراطي وشفاف، ولكنه لم يتنازل بعد عن مشروعه الإسلامي، وجعله مشروعا مؤجلا، يتم الاقتراب منه تدريجيا، وسوف يرفض الغرب ذلك ويحاول منعه. وقد يكون الحزب قد استقر على ما هو ممكن ومتاح، وأصبح أول، وربما أخر، حزب علماني جزئي له جذور إسلامية، يصل للحكم. فإن لم تؤدي محاولة استغلال الفرصة المتاحة إلى اختراق المشروع الإسلامي للحصار المحيط به، فسوف تصبح مجرد تنازل عن المشروع. فهي صفقة مع الغرب، ونتائجها سوف تحدد ما الذي تم بيعه في تلك الصفقة.