فالهزات المتتالية التي نعيشها مثل ما حدث في ملعب بنزرت أو ما حدث في منزل بوزيان أو في سليانة أمس , وما حدث قبل هذا في منزل تميم أو في المكناسي أو ما يقوم به بعض السلفيين من اعتداءات وتخويف ممنهج للناس , كل هذا من الإرهاصات الواجب متابعتها وتحليلها علاوة على واجب التصدي لها خاصة من قبل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ... وفي ما بلي نص الدكتور محمد الحداد مع الشكر له... مرهقة هي الثورة، مكلفة في النفوس وثقيلة على النفسيات، بخاصة في بلدان بعض الحكام من متبلدي الأذهان الذين لم يفهموا بعد حركة التاريخ. أما حيث حقق الشعب ما أراد وأسقط الحكم، فإن مهمة بناء أنظمة سياسية واجتماعية وثقافية جديدة تبدو أكثر عسراً، فالثورة مرهقة مفزعة عندما تنجح أيضاً .
يخشى بعضهم أن ننتقل من ديكتاتورية العسكر باللباس المدني إلى ديكتاتورية مشيخية أو صياغة سنّية لنظرية ولاية الفقيه، وهو افتراض لا يمكن بالتأكيد التقليل من إمكانيات وروده. ألم تصبح قضية «استعادة الخلافة» إحدى القضايا المثارة في ساحة النقاش العام منذ الثورة التونسية؟ ويخشى البعض الآخر من كارثة اقتصادية تنسي الناس فضيلة اليوم الذي طالبوا فيه بالحرية، لأن الحرية مع الجوع لا تنفع، ومما لا شك فيه أن الاقتصادات ذات الطابع الريعي تتأثر بقوة في حالات عدم الاستقرار، وأن الانتقال إلى اقتصادات إنتاجية يتطلب وقتاً طويلاً بينما تلبية الحاجات الأساسية للناس، وبخاصة توفير موارد للرزق، تعدّ مهمة مستعجلة. وهذه مفارقة كبرى يصعب حلها .
ويخشى فريق ثالث من انحلال بعض المجتمعات العربية على الطريقة العراقية، بل الصومالية، فمن كان يظن أن المصادمات في مصر بين المسلمين والأقباط تتواصل بعد الثورة؟ ومن كان يظن أن ما يدعوه التونسيون «العروشية» (التنازع بين «قبائل» وأسر) يعود، بعد أن ظن الناس أنه قضي عليه منذ ستينات القرن الماضي؟ ومن كان يظن أن مباراة كرة قدم تتحول مجدداً إلى معـركة حامية الوطيس؟ الخ .
الذين ظنوا أن سقوط شخص المستبد سيعقبه قيام الديموقراطية مباشرة يشعرون بخيبة مفهومة هذه الأيام، لكن سبب هذه الخيبة قلة إدراكهم مسارات الثورات في التاريخ. الثورة فعل اضطراري يحصل عندما تنغلق سبل الإصلاح في المجتمعات، وقد كان يمكن لأكثرَ من حاكم عربي أن يقوم بإصلاحات متدرجة منذ سنوات فيتفادى حالة الانهيار التام وما يعقبها من مخاطر، فضلاً عن المصير الذي يتردّى فيه بنفسه. ولقد كتبت الكتب الكثيرة ودونت المقالات ودبجت الخطب وقيل ما قيل في تأكيد الحاجة إلى الإصلاح وبيان ضرورته، وكل ذلك من دون جدوى. فلما فشلت دعوات الإصلاح من النخب كان لا بد من صوت الشارع وفعله، بما يعنيه ذلك أيضاً من تقليص دور النخبة، وقيام شرعيات جديدة وخطابات مختلفة، وغلبة العاطفة على العقل، واستعمال العنف بدرجات مختلفة وسيلةً لتحقيق المطالب المشروعة والأقل مشروعية .
ذلك أنه كلما أوصدت سبل الإصلاح بالطرق المتدرجة والمعقلنة قامت الثورات بركاناً هائلاً لا يمكن أحداً أن يمسك بلجامه، ما يُشعر بالانفلات ويدعو إلى الفزع أحياناً. فوضع كل شيء محل الجدال والخصومة يدفع إلى التساؤل عمّا إذا كان قد بقي معنى لوطن مشترك بين المتنازعين المتنافسين على الحديث باسم الثورة والشعب. ولا بد من انتظار سنوات طويلة قبل أن يعود بعض الاستقرار ويمكن التحكم بمسارات الأمور بدقة. وينبغي أن يكون واضحاً أن المعركة ستكون طويلة ومكلفة، ولا شيء سيجد الحل على المدى القصير. ويمكن التخفيف من الضغط النفسي الذي تحدثه هده الوضعية الجديدة، وضعية الجهل بما سيحدث غداً بعد أن كانت الأيام كلها نمطاً واحداً رتيبا، بالاستعادة الذهنية للسيناريوات التي كانت مرسومة أمام الشعوب العربية: لنتصور تونس في حكم زوجة الرئيس المخلوع أو حكم صهره الشاب المتهور، لنتصور مصر يحكمها جمال مبارك، وليبيا يحكمها سيف الإسلام القدافي، سيكون الوضع بالتأكيد أدهى من كل العصور التي عرفتها هذه المجتمعات، لأن الحكام المخلوعين حالياً قد تربوا إلى حد ما في مؤسسات الدولة، في الجيش أو الإدارة، أما الذين كانوا يعدّونهم لخلافتهم فقد تربوا في المناخ المخملي الحريمي الذي لا يعرف من الدولة إلا أنها وسيلة تحقيق نزواتهم، فكان مصير الشعوب أن تصطلي بعقدين على الأقل من حكم أفراد لا دراية لهم بأساليب الحكم ومقتضيات السياسة . فمهما كانت الانـحرافات والانـزلاقــات الــتــي تهـدد الـثـورات العـربية، لا يـمكن أن تكون في مـستوى الكوارث التي كانت محدقة ببعض المجتمعات العربية لو تواصل الأمر على ما كان عليه .
علينا أن نتهيأ لأزمات اقتصادية حادة على المدى القريب، وسيطرة الخطابات الشعبوية بمختلف الأصناف، وضعف الشعور بالانتماء إلى الوطن وبالانصياع إلى قوانين الدولة لأن عصر الاستبداد قد جمعهما في وعي كثير من الناس بالخضوع لشخص الحاكم. ينبغي أن لا ننتظر من الناس أن يستفتوا المثقفين لأنهم لا يدركون وجودهم من الأصل، ولا داعي أن نفاجأ إذا رأينا الناس يعودون إلى الولاءات التقليدية، فالفراغ يعيد الناس إلى الأشكال الأكثر حميمية للشعور بشيء من الأمن والأمان .
وفي النهاية، قد دخلنا سيرورة الفوضى الخلاقة التي قد يتغلب منها جانب الفوضى فنخسر كل شيء، أو قد تعقبها مرحلة الخلق فتتشكل مجتمعاتنا مجدداً على أسس صالحة بعد فترة من المعاناة لن تكون بطول مراحل الاستبداد التي تواصلت قروناً طويلة .
|