أنا قفصي وأنتحب

ينقل صديقنا سليم دولة، ابن قفصة "خزافة الأرواح الجميلة" البارّ، في كتابه
"الجراحات والمدارات" عن كتاب "استنصار في عجائب الأمصار" لمؤلف مجهول
(6ه، 12م) قوله "مدينة قفصة كبيرة قديمة أزليّة (...) وكان على أحد
أبوابها كتابة منقوشة من عمل الأوّل ترجم فإذا هو "هذا بلد التّدقيق
والتّحقيق"، ويصف ياقوت الحموي (574_ 626) أهل مدينة قفصة أيّام زمانه
فيقول "وأهلها وأهل قسطيلية والحمة ونفطة وسماطة شراة متمرّدون عن طاعة
السّلطان" ( "معجم البلدان"ج4 دار صادر بيروت ص 383) ويتساءل الشّاعر
العربي نزار قباني "أكربلاء هذه أم قفصة *** ربّاه كم تتشابه الأحقاب؟"
فهل كان التّساؤل عفويّا؟ وهل كانت المماهاة بين قفصة وكربلاء مجرّدة خطرات
شاعر؟ ألم يُقل إنّ كربلاء من الكرّ والبلاء فبأيّ كرّ وبأيّ بلاء ابتلي
أهالي قفصة حتّى يتورّطوا اليوم في مؤامرة يراد بها الصّراع الأهلي الدّموي
حيّا حيّا، شارعا شارعا، زنقة زنقة؟
لقد كانت قفصة موطن الحلم دائما،
كانت قلعة حصينة للثورة والمقاومة، وقد كنا نشعر أنّنا ننتمي إلى كلّ حركات
التحرّر والمقاومة في العالم وأنّ هذه الحركات تنتمي إلينا، كنّا نشعر أنّ
الوحدة العربية متحقّقة لا محالة بالفعل والقوّة وأنّ مجابهة الصّهيونيّة
والإمبريالية ستؤدّي إلى النّصر حتما، وكنّا نشعر أن بغداد جزء من قفصة أو
أنّ قفصة جزء من بغداد...وكان شّعورنا بالتوأمة مماثلا مع كلّ المدن
العربية المقاومة من بيروت إلى الفلوجة إلى غزّة إلى القاهرة حين أرادت أن
تكون قاهرة...وكنّا نشعر أن ماركس قفصي وأنّ محمود درويش قفصي وتشي غيفارا
قفصي وأنّ الشّيخ ياسين قفصي وأنّ جميلة بوحيرد قفصيّة...
كان يمكن أن
تخرج مظاهرة في قفصة من أي مقهى أو أيّ معهد أو أيّ مسجد للتّعبير عن أصالة
الموقف المناهض للاستبداد والاستعمار ثمّ سرعان ما تتردّد الأصداء في
الجهات والمدن الأخرى... و كنّا نفاخر ونحن تلاميذ بأنّ معاهدنا جامعات
صغرى قبل أن تصبح الجامعات جامحات... هذا النزوع الإيجابي المقاوم شربناه
مع حليب أمّهاتنا فكيف تختلف الرّسالة اليوم وتصبح قفصة هي البادئة
بالثّورة المضادّة والفتنة والمعارك الدّمويّة التي تذكّرنا، ويا للأسف،
بالاقتتال القبلي بين الهوتو والتوتسي؟
إنّها أمور دبّرت بليل
فالمؤامرة كبيرة قديمة جديدة والمتآمرون كثيرون في الداخل والخارج يكفي أن
نتأمّل مثلا ما يروّج من أخبار عن أنّ قاعدة عسكرية فرنسية قد تقام في
الجهة، فالثّورة المضادة بدأت في قفصة قبل عقود فقد أريد لها أن تكون مادّة
تلقّن في كلّ مؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة يكفي مثلا أن نذكر أنّ قفصة
فرضت على مدارسها ومعاهدها في سنوات الجمر إقامة حفلات تهريج وتمييع لتغريب
الرّوح وتخريب العقل وهي ثقافة رداءة تفعل في الناشئة فعل الغبوق
والإصطباح...
لا شكّ في أنّ المؤامرة حيكت كخيوط العنكبوت وتواطأ فيها
أصحاب نفوذ مالي وسياسي وأمني وسرّبت فيروسات كثيرة إلى القرص المضغوط
للعقل البشري لهيكلة الوعي البشري وتنميطه حتّى يؤدي وظيفة يجري تحديدها في
الخفاء. فسيطر، نتيجة لذلك، على الفعل الاجتماعي فاعل نكرة وهاهم أهالي
قفصة اليوم المفعول به الأوّل وقد يتعدّى الفعل إلى الحراك الثوري عامّة
ليصبح المفعول به الثاني...
أكاد اليوم أبكي دمًا وأنا أتجوّل في هضبة
سيدي بوسعيد وحدائقه الغنّاء وشواطئه الخلابة وأتذكّر أن أشجار قفصة كانت
في سنوات الجدب تشقّ على عواصف الخريف فلا تسقط أوراقها فكيف تتساقط اليوم
ونحن نحتفي بربيع الثّورات العربيّة؟
أكاد أنتحب وأنا أحتفل بإنهاء
أطروحتي عن الإيديولوجيا وقد أردتها مدخلا لفهم ما يعتمل في السّاحة
الفكريّة العربيّة فإذا بي أكاد لا أفهم ما فعلته مؤامرات السّياسة بأهلي
في قفصة...
Omar Sassi