حكاية الخافِض الرّافِع
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]قال مُحدِّثي : " كنتُ كلّ صباح استخدم المصعد للنّزول من الطّابق التاسع بالعمارة
حيث أقيم ... قلتُ أستخدم توخّيا للدقة ، فلا عتبتُه بأعلَى من أرضيّة البهو حتّى أقول
أصعده و لا هو بالمطيّة فأقول أركبُه و لا أمل لي في أزمنة تأتي يتنقّل
النّاسُ فيها أفقيّا من مبنًى إلى آخر كما الدّود يتسرّبون في أمعاء من
البلّور دون الحاجة إلى الشوارع ، يكفي هذا الوحش الفولاذيّ و قرينُه
ينخران أحشاء البناية عشرات المرّات في الليل و النّهار ... يضمّ الطّابق
التاسع شقّتي و أخرى قبالتها لجاري. كنّا كما في كلّ صباح نتقابل في البهو
الفاصل بين بابيْنا ، في البداية كان يُحيّيني بنظرة من أعلى كما اعتاد مع
موظّفيه و مَن بيده النّافذة مصائرُهم فلا أردّ عليه التحيّة ، فيُعالج
كبرياءه بتسوية ساعته أو ربطة عنقه في انتظار المصعد . و تحمل عنه حقيبته
إلى موقف السيّارات خادِمٌ صبيّة تقف خلفه . كنتُ دائم الحرص على ألاّ
يجمعني به مصعد فإذا انفتح أحدهما تنازلتُ له عنه ، حتّى صار للرّجل بمرور
الأيّام مصعده الخاصّ لا يستخدمه سواه و لا يُمكِّنُ حارسُ العمارة منه
أحدا إلاّ في الحالات الطارئة و بمقابل . هكذا .. دون عَقدٍ و لا اتّفاق
إلاّ الصّمت و هل أوْدَى بالبعض سواه ؟
في ذلك اليوم انفتح المصعدان في الوقت ذاته و اتّجه كلٌّ منّا إلى غايته ، أغلقتُ الباب
و ضغطتُ على زرّ الصّفر ... أمرٌ مُحبِط أن يبدأ الفردُ يومَه بصفر.
تنتابُني نفس الحيرة كلّ صباح ، ماذا دهَى المعاجم كي تُسمّيه مِصعدا ...
أما لصعوده نزول ؟ فكيف تُطلق عليه نصف الفعل ؟ من حدَّد المقاييس لقيمة
الأداء ؟ ألا يُضاهي نزولي قيمة الصّعود حين أغادر العمارة كلّ يوم لأعمل ؟
و ذاك الطّالِبُ و تلك التلميذة و ذاك المهندسُ ؟ و السيّدة التي تصطحب
ابنَها إلى مدرسته كلّ يوم ؟ ... هؤلاء ، و أمثالنا الملايين ، أليس
لنزولنا قيمة ؟ لو اكتفت الأهميّة بالصّعود لما صعدتْ الخادمة كلّ يوم
لتعزّز رصيد شقائها في بيت مُشغِّلها ، و لما صعدتْ هذه الحسناءُ التي
توليني ظهرَها تكتنفني منها رائحة الخمر و عطر رخيص ، هي على الأرجح من
زائرات آخر الليل لجار الطابق الخامس ، عند كلّ أوّل شهر يصعد بغانية ، فهل
لصعودها صعودٌ ؟ ما أكثر ما يحمل هذا المصعد
حين انفتح البابُ على الطابق الثالث كانت الصّدورُ مُلتحِمة بالأقفية ، و النَّفَسُ
مَطلبٌ عزيز. لكنّ الشيخ صابر أصرّ على الالتحاق بالمحشورين في الداخل ..
الفولاذ يَئنّ من هول الحمولة و الشيخُ جسيم ينبعث منه ما يُحوّل المكانَ
إلى ركن مُعتَم من سوق عتيق. كان بغباء أو ما يُشبه العفاف يحرص على رفع
يديه إلى أعلى و لسانُه لا يتوقّف عن الاستغفار .. و يتغافل عن الرّابِضِ
أسفله لا تُدركه الأبصار ، بل يفضحُه وجهُ صاحبه باحتقان إثر اصفرار ... " و
كأنّ هذا الزّمن أبْقَى على عورة تـُسْتَر " همس المهندس... هذه المرّة لم
يكن للشيخ متّسَع في المصعد و مع ذلك يظلّ منتصبا يمسك بالباب و يُحرِجُنا
بالتحديق فينا .. لوحة المصعد الضوئيّة تعلن تجاوزَ الوزن المسموح به ، و
الوقتُ يمرّ ، حتّى اندلعت خصومة ، الكلُّ يَرمي الآخرَ بأنّه ليس أهلا
للمدنيّة ، و انطلقتْ التّهم تُكال للشبّان بعدم احترام الأخلاق و الأعراف ،
عندما وصل الوضعُ إلى الاستشهاد بالآيات أومَأ المهندسُ للطّالب : " سمير ،
هيّا بنا ننزل . " فأجابه و تبعَتهما التلميذة . عظيم .. ما أكبر حظّي
بالطليعة المتبقّية .. ربّة بيت و شيخ دين و مومس. المهمّ أنّ المصعد انطلق
من جديد ، و ظلّت العيونُ متعلّقة بالصّفر
أخيرا بلغنا الطابق الأرضي - قال مُحدِّثي - و لفظَنا المصعدُ كما القيء. فوجِئتُ
بجاري المسؤول يخرج من مصعده في الوقت ذاته فارْتَبْتُ . ما الذي أخَّرَ نزولـَه
و لا اكتظاظَ لديه يُبطِئُ الآلة ؟ كيف نكون على موعد مع الرّجل و نحن
الأشقياءُ و هو المُنعَّم ؟ لابدّ أنّ خطأ في الطبيعة دفعَه كي يُشاركنا
الزّمانَ و المكانَ و قد عهدناه مُتقدِّما حقيقة و مجازا. ما أروع
الحياة حين تثورُ للصمت و الضياع و القهر و تغضبُ للمصائر و قد غـُبِنَتْ ،
فتتمرّد على المحتوم و تخترق حُجُبَ التسلّط. وحدَه البحثُ عن لحظة تساوٍ
يجودُ بها القدَرُ و قد لا يُكرّرُ مَنَّـه ذاك ، ما جعلني ألتفتُ إلى مصعد
الرّجل .. لمحتُ الخادمة تُسوِّي ثوبَها فتعيد أزرارَه إلى عُراها و تجمع
شتاتَ جسد مُنهك و روح بائسة .. رأيتُها كحبّة من فاكهة خوخ جفَّ ماؤُها
فانكمشتْ و لم تُغادرْ بعدُ غصنَها الرّطيبَ .. سرعان ما انغلق دونها
البابُ و غابتْ في جوف المصعد .. التهِمْها أيّها الوحش الفولاذيّ فقد
نهشَتْ لحمَها الطريَّ قبلكَ الأصابعُ و لاكَتْ براعِمَ منها نَسَجَ لها
الوهمُ يوما أنّها على موعد مع الرّبيع ... خُذها أيُّها الوحش و اصعَدْ
بها .. إصعَدْ و تابِعْ الصّعود .. أمّا هي فلم يَعدْ لصعودها معنى
مصعد ... و انفجَرْتُ في ضحِكٍ مُدَوٍّ نابَ عن الدّموع استعْصَتْ فلاذتْ
بمُؤق العين تُدْميه .. و لم أنتبه إلاّ و حارسُ العمارة يُمسك ذراعي و يصرخ
في وجهي : " ماذا فعلتَ يا أحمق؟ كدتَ تقتل نفسَك ، لماذا عبَثتَ بالأزرار حتّى تعطّبَ
المصعد و أنتَ فيه بمفردك ؟ " ... بمفردي فيه ؟ تملكَني الذهول و هرعتُ
إلى المصعد أبحث عمّن يروي لي قسوة ما مَرَّ بالمكان أو ما يُحبطُ ما زعمَ
الحارسُ ... داخل المصعد كانتْ رجّة العُطل قد هشّمَتْ المرآة إلى عشرات
القطَع . فرمقتُ وجهي و قد تعدَّد و له في كلّ قطعةِ مرآةٍ تـَشكُّـل
في المساء استخدمتُ السلّم لبلوغ شقّتي و من الغد بدأتُ البحث عن بيت أرضيّ حيث لا خافِضَ و لا رافِع