عبد المجيد
عدد المساهمات : 1467 تاريخ التسجيل : 18/03/2010
| موضوع: يفعل الأحمق بنفسه… الخميس 12 مايو 2011 - 12:49 | |
| عن المشهد التونسي الآن يريدون تحميل الراجحي كل خطايا الكون ! كل ما يقع هو إذا بسبب تصريحات الراجحي. كل شيء تحطم أو احترق يجب أن يدفع ثمنه الراجحي. والنعرات الجهوية أيضا يجب تحميله مسؤوليتها. لن يغفر للرجل أنه ضرب الحكومة (تلك التي في الظل وتلك التي في الشمس) في مقتل، مثلما لن يغفر لهيئة تحقيق أهداف الثورة أنها أصرت على الفصل الخامس عشر من القانون الانتخابي المؤقت. لم يكن بين الطرفين أي تنسيق، ولكن من يتسببون اليوم في كل هذه الفوضى ينسقون فيما بينهم جيدا. بل لعل الأمر لا يتطلب أي تنسيق. من خلال قراءة أهداف كل طرف مما يفعل يستطيع المرء تحديد موقعه من المتاهة التي نعيشها جميعا. أعطت تصريحات القاضي فرحات الراجحي، وزير الداخلية السابق، للرأي العام شهادة تؤكد ما كان يرى الدلائل عليه كل يوم. الحكومة لا تهذي رغم شيخوختها، فهي تعرف ما تفعل. وما تفعله، أو بالأحرى ما أرادت فعله، ينبئنا بحجم الضغوط التي تدفع بها نحو طريق اعتقد التونسيون انها لن تتجرأ على السير فيه مجددا: السطو على الفصل الثامن من القانون المحدث للهيئة المستقلة للانتخابات، وقبل ذلك الفصل السابع عشر من القانون المؤقت المنظم للسلطات العمومية الذي يستثني القضاء من أية عملية إصلاح في الفترة الانتقالية، والمساومة على الفصل الخامس عشر من القانون الانتخابي المؤقت. الآن أصبح بإمكاننا إعطاء أسماء ثابتة للأشباح التي تتحرك هنا وهناك في سعيها لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. في مكان آخر كانت أطراف أخرى تحبك فصلا جديدا من رواية جريمتها الطويلة: فتح السجون بتلك الطريقة ودفع سجناء الحق العام إلى الطريق كان قرارا لم تتخذه الحكومة ولكن بعض القوى التي لا زالت تعتقد أن بإمكانها المواصلة في عملية المساومة التقليدية القذرة بين الحرية والأمن. انطلق هؤلاء المنحرفون إلى الأحياء ومركز العاصمة، مستغلين احتجاجات شرعية على حماقات الحكومة، مطبقين نظرية الرعب المعروفة غير آبهين لا بالثورة ولا بأهدافها. في وسط العاصمة واجهت قوات القمع بشدة منقطعة النظير الجميع، سياسيين يرفعون مطالب مشروعة، ومنحرفين. هذا الخلط بين الانحراف والاحتجاج ينبع من ذات العقيدة الأمنية التي تربت عليها المؤسسة الأمنية طيلة نصف قرن من الزمان في بلادنا، ولا يكفي أنه وقع حل البوليس السياسي (رسميا على الأقل) حتى يتغير هذا السلوك، فالأمر يحتاج تربية جديدة قد يطول انتظارنا لنتائجها. لنقل الأمور كما ينبغي أن تقال، على الأقل في نظرنا. ما يجري من أحداث عنف هو نتيجة طبيعية لعدم وجود سلطة ذات شرعية كافية لحكم البلاد. من الغريب أن السيد رئيس الحكومة المؤقتة اعتقد أن هراوات الشرطة قادرة على تحقيق ما أسماه هيبة الدولة. إذا فالرجل لم يتعلم شيئا من تجربته الطويلة في الحكم، وهذا خطير. في الوقت نفسه فليس كل من يتواجه مع رجال الشرطة اليوم من أصحاب المبادئ ومن المدافعين عن الثورة، فهؤلاء، إن وجدوا، لا يركنون إلى العنف أبدا. المشكل أن البعض، في معرض احتجاجه على الحكومة، يكون مستعدا للدفاع عن كل أعمال الاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة، عن هتك كل الحرمات، عن تحطيم ما بقي من مؤسسات هذه الدولة. هذا الغطاء السياسي الذي يقدمه بعض السياسيين يجب أن يقع رفعه، فلا يمكن أن تكون في حزب سياسي يهدف إلى المشاركة في حكم البلاد وتكون أفعالك في الميدان مناقضة لمبدأ الدولة نفسه. بطريقة شديدة الغرابة تلتقي أجندات بعض الأطراف السياسية التي تدعي أنها مؤتمنة على الثورة، مع غريزة النهب والتحطيم التي تعود للظهور بمناسبة ودون مناسبة. المشهد لا يختلف مطلقا على ما حدث في الفترة السابقة: نفس الأطراف، مسلحة بالمنحرفين، تحاول الركوب على احتجاجات سلمية مشروعة. هل سيتوجب على المحتجين أن يخرسوا إلى الأبد خوف اختلاط المنحرفين بهم؟ قد يكون ذلك الهدف الحقيقي مما يحصل، فلبعض الناس أجندات لا يعلم تفاصيلها إلا الراسخون في الفساد. في المقابل، يبرز الطابع الغريب لتعامل الشرطة مع ما يحصل. هناك انتقائية واضحة تحكم هذا التعامل منذ يوم 14 جانفي: التدخل متى تريد وبالطريقة التي تعتقد أنها تحصل بها على ما تريد. الشرطة حزينة على ما فقدته من صلاحيات كانت تسمح لها في السابق بتجاوز القوانين دون أن تلقى أي رادع، وهي اليوم تعاقبنا على ذلك. ذلك ما يفسر وحشية تدخلاتها من حين لآخر، وحنقها الشديد على المدونين ورجال الإعلام إلى حد مهاجمتهم بالطريقة التي رأيناها أول أمس بالشارع الرئيسي بالعاصمة. بل قل إنها تحقد على ذلك الشارع وتريد معاقبته هو الآخر. بل إن من يفترض بهم الدفاع عن حرمة الأملاك العامة والخاصة، وتطبيق القوانين، يتجرؤون أحيانا على مساعدة المخربين وحمايتهم. الصور التي تتوالى علينا توضح أية وقاحة يتصرف بها بعض أعوان الأمن. غريبة عودة الملثمين، واتخاذهم أدوارا تبدو لنا متناقضة أصلا، ولكن هاهي الآن متكاملة: ملثمون يحملون هراوات الشرطة الرسمية يقفون بأكثر الطرق ودية إلى جانب ملثمين يحملون حجارة يقذفونها على واجهات المحال التجارية ! يستفيد كثير من الناس من الفوضى اليوم، إلا أولئك الذين لا يضيعون الأهداف الرئيسية من هذه الثورة: تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية العادلة. الفوضويون الذين لا يعرفون ما يريدون، وأنصار النظام القديم الغارقون في الفساد والذين لا يريدون استقرار الأمور حتى لا يحاسبوا في يوم من الأيام على ما اقترفوه من جرائم في حق هذا الوطن، والمنحرفون الذين أطلقتهم أيد آثمة من السجون ليعيثوا في حرمات الناس فسادا، وكل من يغطي على هؤلاء ويعطي لجرائمهم بعض الشرعية. في هذا السياق يأتي بعض السياسيين ليطالبوا بحكومة وحدة وطنية، وهي دعوة مشروعة في ظاهرها، ولكن باطنها يعني تأبيد حالة انعدام الاستقرار وإدامة اللاشرعية، هذا إذا لم يكن الهدف من ذلك إحداث نوع من الفراغ. حكومة وحدة وطنية في بلد غير مستقر يوجد فيه حوالي السبعين حزبا لا يعرف أي منها حجمها الحقيقي: أي ذكاء خارق أنجب هذه الفكرة ! لا مخرج من هذا الوضع إلا بانتخابات تمنح البلاد هيئتها التأسيسية، أول مؤسسة شرعية بعد الثورة، وحكومتها المؤقتة التي تقود البلاد إلى حين صدور الدستور وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية. أما فيما عدا ذلك فمرحبا بالفوضى الدائمة. بإصرارها على رفض الفصل الخامس عشر من القانون الانتخابي المؤقت لمدة تناهز الشهر من الزمان، كانت الحكومة المؤقتة ورئيسها يضيعان علينا وقتا ليس أثمن منه. كانت الحكومة تعتقد أنه بالإمكان ترك الباب مفتوحا لرموز النظام البائد ليشاركوا في المسار الجديد. بإصرارها على إبقاء الإعلام والقضاء كما كانا عليه طيلة العهد البائد قامت الحكومة بإرسال الرسائل الواضحة عن التزاماتها الحقيقية، وقد عبرت أكثر من مرة عن تلك الالتزامات. هي اليوم تتحمل وزر تلك الأخطاء القاتلة، ولم تكن تصريحات الراجحي إلا القشة التي تكاد تقصم ظهرها اليوم. هي اليوم أضعف بكثير مما كانت عليه قبل شهرين، وقد لا تصل بنا حتى الانتخابات. قد تضحي هذه الحكومة بوزير الداخلية، ولكننا نعلم، وهي أيضا، أن ذلك لن يحل المشكل. يتوجب عليها أن تختار نهائيا السير وفق ما يريده أغلب التونسيين: القطع نهائيا مع ممارسات ومصالح الطغمة البائدة. لكن تصريحات الراجحي لم تحمل ذلك فقط، بل حملت أيضا تخمينات كان من نتائجها تراجع الثقة في دور المؤسسة العسكرية. قد لا يكون الرجل قاصدا ذلك، غير أن النوايا لا تهم كثيرا عندما تقع الفأس في الرأس. لننظر إلى المسالة بطريقة فيها بعض الاستشراف: لنفترض أن هذه الحكومة سقطت في الأيام القادمة، ولنفترض أنه في سعيها لملء الفراغ الحاصل ستسعى الأحزاب إلى تشكيل حكومة جديدة، ولنفترض أن عهد الفراغ سيطول، فماذا سيكون الحل: نعتقد أن تلك التصريحات بإثارتها الشكوك في المؤسسة العسكرية قد أضعفت إمكانية إتباع بلادنا، ولو بعد حين، للنموذج المصري: تعيين قيادة الجيش لحكومة مدنية تقود البلاد حتى موعد الانتخابات. الخسائر المادية والمعنوية والسياسية لعملية التشكيك في دور المؤسسة العسكرية تفوق عن الحصر. في الوقت نفسه يهدد حريق ليبيا بالامتداد داخل بيتنا، وتنفجر على حدودنا الجنوبية أزمة إنسانية قد يصعب على قارة كاملة أن تتحمل مأساتها، ويجد الجيش نفسه عرضة لنوع من الاستنزاف على جبهات متعددة. ما لا يعلمه أولئك الذين يستهدفون بتخميناتهم غير الحكيمة المؤسسة العسكرية، دون أن يقدموا من الأدلة على صحة تخميناتهم سوى قدرتهم على الخيال، أنهم إنما يتعرضون للمؤسسة الوحيدة الصلبة في وضع رخو جدا. لنتصور الوضع دون مؤسسة عسكرية متماسكة، وسنفهم أية خسائر توقعنا فيها عملية مهاجمة الجيش. يحدث ذلك في الوقت الذي يطرح فيه بعض السياسيين فكرة أن يكون الجيش ضامنا مستقبليا للديمقراطية والحداثة ! أي انفصام في الشخصية الجماعية هذا الذي أصبحنا نعيشه؟ ! في رقصة الحمق التي أصبح الجميع يتقن اليوم فنونها، يصبح البحث عن فتات من النور والحكمة عملية شديدة التعقيد. الغريب أن البعض ممن استمع لتصريحات الراجحي لم يروا فيها إلا ما أرادت أنفسهم المريضة أن ترى، مطبقين انتقائية الوعي التي أحسنوا باستمرار اللعب عل حبالها، مغلبين، وهم نخبة البلاد في السياسة والمعرفة، غريزة الجهوية المقيتة على الوطنية التي لم ترق بعد إلى مرتبة الغريزة لديهم، منساقين إلى التبارز بالألقاب على جثة وطن ينزف بسبب حماقاتهم. إذا كان أبناء أية جهة من جهات البلاد يعتقدون أن الفساد والاستبداد والكفر بنعمة المساواة أشياء تمثلهم وتستحق أن يدافعوا عنها باسم وحدة الانتماء الجهوي، فيا خيبة المسعى. نعم، يفعل الأحمق بنفسه ما لا يفعله الخبيث بعدوه ! عدنان المنصر،
| |
|