بثت القناة الأولى للتلفزة التونسية يوم الاثنين 7 فيفري الجاري تسجيلا
لمداولات مجلس النواب أقل ما يقال فيه أنه تسجيل غير عادي بكل المقاييس فقد
كان مليئا بالمشادات الكلامية وبالتهجم والصراخ وحتى النكتة
و"الضمار"بالرغم من جهود السيد رئيس المجلس وتذكيره للسادة النواب والضيوف
وبكل مهنية بالانضباط.
لقد أثبت السادة النواب من خلال نقاشهم للقانون الذي فوضوا فيه للسيد رئيس
الجمهورية المؤقت في اتخاذ المراسيم طبقا للفصل 28 من الدستور أنهم وللأسف
ليسوا ممثلي الشعب بقدر ما هم موظفون في مؤسسة خدماتية تقدم خدمات للرئيس
المخلوع ولدولته. لقد أثبتوا بحضورهم ولكن أيضا بغيابهم بتدخلاتهم وبصمتهم
أنهم يصرفون المال العام من أجل أن يتابعوا أجندات مختلفة لا تحتل فيها
مصلحة الوطن والشعب المكانة الأولى.
لقد استغربت أشد الاستغراب على تسليمهم الجماعي بحتمية التفويض وعدم استبسالهم
كفريق واحد ولا كأفراد متفرقين على التمسك بشرعية مجلسهم وعلى رفضهم
التفويض. ما الذي جعلهم متيقنين من أن مجلسهم سيحال على عدم المباشرة بتلك
السهولة ولم يحاولوا الحفاظ عليه قدر المستطاع وبدا على الجميع من متكلمين
وصامتين آثار التسليم والانصياع؟ كل ما شاهدنا وسمعنا كان تذمرا على أحزاب
«حلت» ومحاولات تحميل الحكومة ما حدث ونواح على ما فات واتهامات
صريحة بالوصولية والخيانة ومحاولات يائسة للتذكير بأن هنالك من حذر ومن
نبه ولكن بدون فائدة. وسمعنا عن ملفات النهضة يسمسر بها ورأينا من هاج وماج
لأنه يتحسر على ما فقده هو ولا يقبل أنه هنالك من زملاءه من خسر أقل منه. لا أستطيع أن أخلص إلى أن هذا الانصياع جديد على هذه المجموعة.
كم تمنيت أن يعتذر كل النواب بمختلف انتماءاتهم صادقين من الشعب التونسي وكل
الشعب التونسي لأنهم لم يكونوا في مستوى تطلعات الشعب واختاروا أن ينشروا
البيانات المدينة للتدخل الأجنبي واختاروا أن يدلوا بتصريحات عبر الفضائيات
العربية والأجنبية يتهمون فيها قناة الجزيرة ولم يفكروا حتى في استنكار
الاعتداء على الأبرياء ولم نسمع عن دورهم كقوة ردع تطالب بفتح تحقيق في
التجاوزات الأمنية أو «تناشد» الرئيس المخلوع بحقن دماء الشهداء. من الممكن
جدا أن يكون ضمن النواب من الشرفاء من صرّح همسا بقلقه ومن عبّر عن أسفه
في محيط آمن لا يخشى فيه جاسوسا أو واشيا، ولكن الشعب التونسي كان يتوقع
أكثر من الهمس ومن الكلام بالصوت الخافت. من العبث تحميل النواب مسؤولية كل
الأرواح التي أزهقت ولكنه من العبث أيضا أن يتمادوا في إنكار خذلهم الفردي
والجماعي للشعب التونسي وأن يعتذروا على ذلك وبكل بساطة. لقد اختاروا أو
وافقوا أو وجدوا أنفسهم في خضم قوى سياسية يعرفون مسبقا أن ولاءهم للرئيس
وليس للشعب هو الضمانة الوحيدة لتعيينهم في مجلس النواب ولبقائهم فيه
باختلاف انتماءاتهم السياسية فلا بأس أن يعتذروا الآن صادقين عن خذلهم
للشعب التونسي.
أعرف شخصيا عددا لا بأس به من النواب المحترمين الذين حاولوا صادقين أن يقوموا
بمهامهم على حسب ما تسمح به الظروف وأن يرفعوا من سقف المشاركة في الفعل
السياسي أقصى ما يمكن وقد عشت معهم تجربة نقاش قانون التعليم العالي لسنة
2008 ولامست عن قرب قوى الضغط التي عاشوها لمجرد أنهم حاولوا القيام
بواجبهم وقد صدر القانون بعد ضغط سياسي مهول ولا يزال يحمل بين طياته
العديد من القنابل الموقوتة التي ستنفجر في وجه الشعب التونسي والتي كان
يمكن للسادة النواب أن يجتهدوا لتفاديها لو سمح لهم السيد الوزير آنذاك
القيام بواجبهم ولم يرفع في وجههم وبإصرار واستبسال شارة أنه يطبق تعليمات
السيد الرئيس.
ولا يمكنني ولا يمكن لأحد بأي حال أن يعمم أو أن يستحقر الدور الذي حاول على
الأقل بعض النواب الوطنيون لعبه ولكن السادة النواب قبل غيرهم يعلمون كل
العلم أن التعيينات في مجلس النواب تضرب شرعيتهم في الصميم وأن ولاءهم لمن
تفضل عليهم بالتعيين يحجب وإلى حد كبير رؤيتهم لواجبهم الحقيقي الذي ينصّ
عليه الدستور والذي يتوقعه منهم الشعب. لا يستطيع أحد أن ينكر أن التمثيلية
الدمقراطية لم تعد ممكنة باختفاء متعهد الحفلات وصاحب المصلحة الأولى
منها. أرى أنه من الأشرف للكثيرين الاعتذار أولا والاستقالة ثانيا ولا أظن
أن المزايدات على الثورة ستنفع البعض. أرى شبابا متقد الحماس والذكاء ومن
السخف أن يظن أحدهم أنه يمكن له أن يستبلهه وخاصة بعد أن ذاق اليوم رحيق
الحرية واستمتع بها. لن يرضى شباب تونس أن يستبلهه أحد بعد اليوم أو أن يعامله أي طرف على أنه قاصر أو ساذج. ..
R.benothman@fshst.rnu.tn
* كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس