لندن – – يساوي الكاتب والمعلق الصحافي البريطاني رروبرت فيسك في مقال نشرته صحيفة "ذي اندبندنت" البريطانية اليوم السبت بمناسبة الذكرى التاسعة لاعتداءات 11 ايلول (سبتمبر) 2001 بين جميع المتعصبين دينياً الذين يرتكبون جرائم باسم الدين ويضع في عداد اولئك "المعتوهين" والـ"مهوسين" كلاً من الرئيس الاميركي السابق جورج بوش، واسامة بن لادن، ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، والملا عمر وآلاف الجنود الغربيين الى جانب الملا عمر والآن القس الاميركي تيري جونز ومنتجي الاسلحة وممارسي التعذيب باسم "الحرب على الارهاب".
ويقول فيسك: "هل ادت احداث 11 ايلول (سبتمبر) بنا جميعاً الى الجنون؟ كم هو مناسب، بطريقة غريبة جنونية، ان يتبين ان النموذج الأمثل لعاصفة النار تلك التي عصفت قبل تسعة اعوام هو قس معتوه يهدد بعاصفة نيران اخرى يحرق فيها القرآن بالاسلوب النازي. او هو مسجد يعتزم بناؤه على بعد مسافة قصيرة من "الارض صفر" – كما لو ان احداث 11 ايلول كانت هجوماً على المسيحيين المؤمنين بالمسيح وليس على الغرب الملحد؟
ولكن لماذا ينبغي نفاجأ؟ انظروا فقط الى جميع المعتوهين المهووسين الآخرين الذين ولدوا في اعقاب تلك الجرائم الدولية ضد الانسانية: احمدي نجاد الذي هو نصف مجنون، والقذافي المنفر بعد تخلصه من برنامجه النووي، وبلير بعينه اليمنى المجنونة وجورج دبليو بوش وسجونه السوداء والتعذيب فيها والحرب المعتوهة "ضد الارهاب"؟. وذلك الر جل الشقي الذي عاش – او ما زال يعيش – في كهف افغاني ومئات الاعضاء الذين اوجدهم في "القاعدة"، والملا ذي العين الواحدة – من دون ان نذكر جميع افراد الشرطة المعتوهين ووكالات الاستخبارات وقبضايات الـ"سي آي أي" الذين خذلونا كلنا - خذلاناً تاماً – في 11 ايلول (سبتمبر) لأنهم كانوا اكسل، او اكثر حماقة، من ان يستطيعوا معرفة هويات الـ19 رجلاً الذين كانوا سيهاجمون الولايات المتحدة؟ وتذكروا امراً واحداً: حتى لو تمسك القس تيري جونز بقراره التراجع، فان معتوهاً آخر من معتوهينا سيتقدم ليحل محله.
والواقع هو انه يبدو في هذه الذكرى التاسعة الكئيبة – واللهم احمنا من الذكرى العاشرة لـ 11 ايلول في العام المقبل - اسفرت ليس عن (تعزيز) السلام او الديموقراطية او حقوق الانسان، وانما انتجت وحوشاً. وقد طاف هؤلاء في ارجاء العراق – بانواعهم الغربية والمحلية – وازهقوا 100,000 روح او 500,000 او مليون ، من الذي يأبه؟ لقد قتلوا عشرات الآلاف في افغانستان، فمن يهتم؟ ومع انتشار الآفة عبر الشرق الاوسط والكرة الارضية، فانهم – واقصد طياري اسلحة الجو والمتمردين، والمارينز والانتحاريين، واتباع "القاعدة" في المغرب وفي الخليج والخلافة (الاسلامية) في العراق والقوات الخاصة وشباب الدعم الجوي عن قرب وجزاري النحور – قطعوا رؤوس نساء واطفال ومسنين ومرضى وفتيان واصحاء، من الاندوس حتى البحر المتوسط، ومن بالي الى قطارات الانفاق في لندن، ويالهذا من نصب تذكاري للابرياء الـ 2966 الذين قتلوا قبل تسع سنوات. ويبدو ان هذا كله الذي تم باسمهم هو محرقة النار والدماء التي نشنها، متمثلةً الآن في شخص قس غينسفيل المهووس.
هذه هي الخسائر، طبعاً. ولكن من الذي جنى ارباحاً؟ انهم تجار السلاح بالطبع، وشركتا "بوينغ و"لوكهيد مارتن" وجميع شباب الصواريخ وصانعو الطائرات من دون طيار وشركات انتاج قطع غيار طائرات "اف – 16" والمرتزقة العتاة الذين يجوبون ديار المسلمين نيابةً عنا الآن بعد ان اوجدنا 100,000 عدو اضافي مقابل كل واحد من القتلة الـ9 الذين ارتكبوا احداث 11 ايلول (سبتمبر). لقد قضى ممارسو التعذيب وقتاً ممتعاً واشبعوا ساديتهم في سجون اميركا السوداء – وكم هو مناسب ان مركز التعذيب الاميركي في بولندا قد كشف امره الآن في الذكرى التلاسعة – مثلما تمتع الرجال (والنساء، كما اخشى) الذين يتقنون صنع الاصفاد والقيود واساليب تقليد الاغراق التي نخوض بها حروبنا الآن. ويجب الا ننسى ايضاً كل متعصب دينياً في العالم، سواء كان من صنف بن لادن، او جماعات الملتحين في طالبان، او الجلاوزة الانتحاريين، او الواعظين ذوي الخطافات في اذرعهم، او قسنا الخاص في غينسفيل.
وماذا عن الله؟ اين مكانه؟ ان ارشيف مقتبسات يوحي بان كل وحش تقريباً من الوحوش الذين ولدوا في 11 ايلول (سبتمبر) او بعده هو من المؤمنين بذلمك المخلِص. بن لادن يصلي لله - متوسلاً له ان "الا يترك من اميركا الا شبحها"، كما قال لي في 1997 – وبوش صلى لله وبلير صلى – ويصلي – لله، وكل القتلة من المسلمين وعدد كبير من الجنود الغربيين والدكتور (الفخري) القس تيري جونز واتباعه الـ 30 (او قد يكونون 50، اذ ان من الصعب العثور على الاحصاءات في "الحرب على الارهاب") يصلون لله. ولا بد ان الله السرمدي قد استمع طبعاً الى كل تلك الصلوات التي يصغي لها خلال حروبنا الجنونية. وبحسب كلمات شاعر من جيل آخر: "هذا هو الله، ذاك هو الله والاله الآخر. وادرك الاله صعوبة عمله". تلك الكلمات كانت عن الحرب العالمية الاولى فقط.
قبل خمس سنوات – وفي الذكرى الرابعة للهجمات التي تعرض لها مركز التجارة العالمية والبنتاغون وبنسيلفانيا – سألتني طالبة أثناء احدى المحاضرات في احدى كنائس بلفاست ما اذا كان الشرق الاوسط سيفيد من تزايد العقائد الدينية. بل – من تضاؤلها – فجاء ردي بصوت مرتفع ان الله مفيد في التأملات وليس الحروب. غير
من ضحايا "9/11"
أننا هنا نجد أنفسنا مدفوعين نحو الشعاب المرجانية والصخور الخفية التي يأمل قادتنا منا ان نتجاهلها وننساها ونغض النظر عنها – وكل هذا الخضم الرهيب يضم الشرق الاوسط: انه يتعلق بالشعب المسلم الذي حافظ على ايمانه في وقت فقد فيه الغربيون الذين يسيطرون عليه – عسكريا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا – ايمانهم. ويتساءل المسلمون: كيف يمكن ان يحدث هذا؟ لا ريب ان في قمة سخريات القدر ان يكون القس جونز مؤمناً بينما البقية منا – على كل المستويات – لسنا كذلك. ومن هنا فان كتبنا ومستنداتنا لا تشير البتة الى المسلمين ضد المسيحيين، وانما الى المسلمين ضد "الغرب".
وانه لأمر طبيعي ان يكون الموضوع المحظور علينا الحديث عنه – الا وهو علاقة اسرائيل باميركا والدعم الاميركي غير المحدود لقيام اسرائيل بسرقة الارض من العرب المسلمين – في القلب من هذه الازمة الرهيبة التي نعاني منها في حياتنا. وكانت صحيفة "ذي انديبندنت" قد نشرت في عدد الأمس صورة لمظاهرة افغانية تنادي بـ"الموت لأميركا". وفي الخلفية كان المتظاهرون انفسهم يرفعون راية سوداء اللون وقد كتب عليها باللغة الدارية باللون الابيض أن "نظام الحكم الصهيوني مصاص الدماء والزعماء الغربيون الذين لا يأبهون للمعاناة وليس لديهم ضمير يعيدون الاحتفال بالسنة الجديدة بسفك دماء الفلسطينيين الحمراء".
وكانت تلك الرسالة متطرفة بقدر ما فيها من سوء – لكنها تؤكد مرة اخرى ان الحرب التي نشارك فيها تتعلق كذلك باسرائيل و"فلسطين". وقد نميل الى تجاهل ذلك في "الغرب" – حيث يُفترض ان المسلمين "يكرهوننا لما نحن عليه" أو "يكرهون ديمقراطيتنا" (راجع: بوش وبلير وغيرها من السياسيين الكذوبين) – الا ان هذا الصراع يصب في القلب من "الحرب على الارهاب". وهذا هو السبب الذي دعا بنيامين نتنياهو، وهو شرير بالقدر ذاته، ليقول في اعقاب هجمات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) انها تصب في مصلحة اسرائيل. اذ ان اسرائيل ستتمكن الان من الاعاء انها تشارك ايضا في "الحرب على الارهاب"، وان عرفات – حسب ادعاء ارييل شارون وهو الان في غيبوبة – هو "بن لادن بالنسبة الينا". وهكذا فان الاسرائيليين كانت لديهم الوقاحة للادعاء بان سديروت، التي تتعرض لصواريخ مصنوعة من الصفيح تطلقها "حماس"، على انها "بالنسبة الينا غراوند زيرو" (وهو ما يطلق على الارض الفضاء التي خلفها تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك).
ولكن الامر مختلف تماما. فمعركة اسرائيل مع الفلسطينيين هي صورة مشوهة عن "حربنا ضد الارهاب"، التي يفترض فينا ان ندعم اخر مشروع استعماري على وجه الكرة الارضية – ونقبل نتيجتها بالاف الضحايا – لأن 19 عربيا مجرماً هاجموا البرجين والبنتاغون ورحلة طائرة "يونايتد" رقم 93 قبل تسع سنوات. ومن المهازل المضحكة ان تكون احدى نتائج الحادي عشر من ايلول 0سبتمبر) المباشرة سيلاً من رجال الشرطة الغربيين الذين سافروا الى اسرائيل لتحسين "خبراتهم في مكافحة الارهاب" بمساعدة ضباط اسرائيليين يمكن ان يكونوا – حسب الامم المتحدة – مجرمي حرب. ولا عجب اذن ان نجد ان الابطال الذين اقتنصوا الشاب جان تشارلز دي منزيس في محطة أنفاق في لندن في العام 2005 تلقوا النصيحة "في مكافحة الارهاب" من الاسرائيليين.
وفي حقيقة الامر فان مقتضيات الامر لم تغب عن ذهني. فنحن لا نستطيع ان نقارن افعال الارهابيين الشريرة بشجاعة الشبان والشابات الذين يدافعون عن حياتنا – مضحين بحياتهم – على الجبهة الامامية من "الحرب على الارهاب". اذ لا مجال لـ"المساواة". "فهم" يقتلون اناسا ابريا "لأنهم" اشرار. و"نحن" نقتل ابرياء بطريق الخطأ. لكننا نعرف اننا سنقتل ابرياء وان افعالنا ستخلق مآسي كبيرة لعائلات ولاناس فقراء وضعفاء ومشردين.
ولهذا فقد اوجدنا تعريفا شريرا لـ"الاضرار الجانبية". اذ انه اذا كانت كلمة "جانبية" تعني ان هؤلاء الضحايا كانوا ابرياء، فان "جانبية" تعني ايضا اننا أبرياء حين نقتلهم. فقتلهم لم يكن في نيتنا، حتى وان كنا ندري اننا سنفعل ذلك لا محالة. ففي تعبير"جانبية" خلاصنا. وهذه الكلمة وحدها هي التي تجعل الفرق "بينهم" و"بيننا"، بين حقنا السماوي في القتل وحق بن لادن السماوي في ازهاق الارواح. اما الضحايا، الذين يختفون باعتبارهم جثثا "جانبية" فلا مجال للاهتمام بهم بعد هذا وذاك، لاننا نحن الذين ذبحناهم. وقد لا يكون الامر مؤلما. ولعل القتل بالطائرات التي تطير من دون طيار يحمل في طياته مفارقة ارض بصورة اكثر هدوءا، وان سلب الحياة بصواريخ جو أرض من قاذفات "بوينغ لوكهيد 114 سي" أقل ألما من الموت بشظايا قنبلة مزروعة في الطريق او بعمل شخص انتحاري قاسي القلب يتمنطق بحزام ناسف.
ولهذا فاننا نعرف عدد الذين قتلوا في الحادي عشر من أيلول – 2966، وان كان من المحتمل ان يكون العدد اكبر من ذلك – واننا لا نقوم بتعداد "الاشخاص" الذين نقتلهم نحن. لانهم "ضحايانا" – ويجب الا تكون لهم هوية ولانهم ليسوا ابرياء ولا شخصية لهم او قضية او قناعة او شعور. ولاننا قتلنا اعدادا من الناس أكبر بكثير من الذين قتلهم بن لادن وطالبان والقاعدة.
الذكريات هي احداث تعيش عليها الصحف والتلفزيونات. فلديهم عادة غريبة في الالتحام سوية لخلق اطار ذكريات مؤلم. لهذا فاننا نحيي ذكرى معركة بريطانيا – وهي صفحة بطولية في تاريخنا – والقصف الجوي الذي ينتج عنه قتل جماعي على وجه التأكيد، الا انه رمز للشجاعة البريئة، ونحن نستعيد ذكرى بداية حرب مزقت اوصال معنوياتنا، وحولت سياسيينا الى مجرمي حرب وجنودنا الى قتلة واعداءنا المتهورين الى ابطال في قضية معاداة الغرب. وبينما يريد القس جونز في خضم هذه الذكرى الضبابية حرق المصحف، حاول توني بلير بيع كتاب اطلق عليه اسم "رحلة". ويقول جونز ان القران "شرير"، وتساءل البريطانيون ما اذا ان كان يجب تصنيف كتاب بلير على انه "جريمة". وتحولت احداث الحادي عشر من أيلول الى فانتازيا وهمية عندما امسك القس جونز باصابعه خيوط اهتمام اوباما وكلينتون والحبر الاعظم بل والامم المتحدة المقدسة. كل هؤلاء الذين ستدمرهم الالهة"