[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]فهمي هويدي
أهم مسلسلات الموسم هذا العام هو ذلك الذي تجري
أحداثه في أروقة السلطة، وتدور فكرته حول الصراع على مستقبل الحكم في مصر.
والفرق بينه وبين غيره من المسلسلات التي حفل بها شهر رمضان، أن الأخيرة
عرضت حلقاتها على شاشات التلفزيون، في حين أن حلقات المسلسل الأهم والأخطر
نشرت في بعض الصحف.
(1) حين أجريت التعديلات الدستورية في مصر، وقررت إجراء انتخابات تنافسية
بين المرشحين لرئاسة الجمهورية، تفاءل الناس خيرا وهلل الإعلام الذي اعتبرت
أبواقه أن مصر صارت على أبواب عصر جديد، لن يستفتى فيه الناس على رئيس
الجمهورية الذي يرشحه مجلس الشعب (كما في الوضع السابق)، ولكنهم سيختارون
بأنفسهم رئيسهم بين عدد من المرشحين للمنصب. وحين عبر البعض عن قلقهم
للطريقة المريبة التي تمت بها صياغة المادة 76، والتي وضعت شروطا مستحيلة
أمام أي مرشح من خارج الحزب الوطني، قيل لنا إننا يجب ألا نكون طماعين أكثر
من اللازم، ويكفينا فخرا أن الباب انفتح أخيرا أمام إجراء انتخابات
تنافسية على المنصب الأهم في البلاد.
وحين سرت الشائعات عن إعداد الابن للترشح لرئاسة الجمهورية، خصوصا بعد
تعيينه أمينا للسياسات في الحزب الوطني الحاكم، جاء النفي حاسما وقاطعا،
ومؤكدا أن مصر الكبيرة ليست البلد الذي تورث فيه السلطة، وأن في البلد
دستورا وقانونا وشرعية تسمح بانتقال السلطة بسلام وأمان.
لاحقا تحدث البعض عن صراع بين الجيلين القديم والجديد في داخل الحزب
الوطني، ورصد أهل النميمة السياسة معالم الشد والجذب بين رموز الجيل القديم
من رجال الرئيس ورموز الجيل الجديد من أصدقاء الابن وأعوانه الذين صعدوا
معه، ومنهم من تهامس بمعلومات عن حرص الرئيس على كبح جماح جماعة الابن،
والحفاظ على التوازن بين المعسكرين. لكن تلك المعلومات نفيت بسرعة، وتحدث
بعض قادة الحزب عن تماسكه وثبات قدمه، قائلين إن الذين يروجون لفكرة
الجيلين لا يدركون مدى تلاحم بنيانه، ويتحدثون عن تمنياتهم وأحلامهم وليس
عن شيء في الواقع.
وحين أثير موضوع الترشح لرئاسة الجمهورية، سواء بسبب اقتراب الولاية
الخامسة للرئيس مبارك، أو بعد الأنباء التي ترددت عن حالته الصحية وفتحت
أعين النخبة على ضرورة ترتيب الانتقال السلمي للسلطة إذا طرأ أي طارئ
مفاجئ، خرج أمين الإعلام في الحزب بمقولته الشهيرة التي اعتبر فيها أن
ترشيح أي شخص آخر للرئاسة في وجود الرئىس مبارك هو «قلة أدب».
لم تمض أيام قليلة على هذا التصريح حتى ظهرت اللافتات التي دعت إلى
ترشيح الابن للرئاسة. وقرأنا عن شيء اسمه الائتلاف الشعبي لدعم جمال مبارك،
وشيء آخر اسمه الجمعية الوطنية للتأييد (لمواجهة الجمعية الوطنية
للتغيير)، ولكن أمين الحزب الوطني المحسوب على الحرس القديم، قال في حواره
مع جريدة «الأسبوع» (23/7) ومجلة «المصور» (25/8) إن مبارك مرشح الحزب
الوحيد لانتخابات الرئاسة بإجماع قياداته، وإن الحزب ليست له علاقة
بالتوقيعات التي تجمع باسم الابن أمين السياسات، وإن اعتبر الملصقات التي
تؤيده من قبيل حرية التعبير (!). لكنه وصف حملة الابن بأنها عبث سياسي اتسم
بالعشوائية، وقال إن الحزب لا يوافق عليها، وإن الذين يقفون وراءها لهم
أهداف متعددة.
(2) اكتشفنا أخيرا أن الأمور أكثر تعقيدا وأقل براءة. إذ تبين أن الصراع
بين جناحي الحزب الحاكم هو الجزء الظاهر من جبل الجليد. وان هناك صراعات
أخرى ظلت مكتومة طوال السنوات الماضية، ولم يكن يشار إليها إلا همسا في بعض
دوائر النخبة. لكن بعض الصحف الحزبية فتحت باب الحديث عن تلك الصراعات،
على نحو فاجأنا وسلط أضواء أخرى على قضية مستقبل الحكم في مصر. فقد نشرت
صحيفة «العربي» الناطقة باسم الحزب الناصري في 8 آب/أغسطس الحالي، مقالا
لرئيس تحريرها الزميل عبد الله السناوي، تحدث فيه عن الصراعات الجارية حول
الرئاسة القادمة. وذكر صراحة أن ثمة انقساما في البيت الرئاسي وأن صوتا من
داخل البيت أعلن عن رفض وراثة الرئيس وهو على قيد الحياة، في هذا الصدد قال
إنه «لأول مرة منذ صعود نجل الرئيس الأصغر كرئيس محتمل لوالده تتبنى أطراف
قريبة منه فكرة الضغط العلني على الرئيس لإفساح المجال أمام ابنه لخوض
الانتخابات الرئاسية القادمة باسم الحزب الوطني». وذلك حتى لا ينتكس مشروع
التوريث إذا ما تعرض الرئيس لعارض صحي مفاجئ، باعتبار فرصة إنجاح المشروع
تظل متوافرة في وجود الرئيس، وفي غير هذه الحالة فإن «السيناريو كله يمكن
أن ينزوي إلى الأبد».
تحدث زميلنا السناوي أيضا عن أن حملة تسويق الابن للانتخابات الرئاسية
ووجهت بحملة مضادة تزكي الرئيس مجددا للبقاء في السلطة لدورة سادسة. وخلص
إلى أن «ثمة فتنة داخل البيت الرئاسي». وفي شرح خلفية الفتنة ذكر ان الأب
يشفق على ابنه «ولا يريد أن يضعه بيده في الجحيم»، ولكن ثمة ضغوطا من داخل
الأسرة تؤيد طموح الابن. وفي إطارها ارتفع صوت (قيل إن المقصود علاء مبارك)
يمانع في نقل السلطة إلى الابن في وجود الأب، ويعتبر أن اللافتات التي
رفعت تأييدا للابن تنتقص من هيبة الرئيس وتسعى إلى وراثته وهو على قيد الحياة.
في عدد لاحق من صحيفة «العربي» (صدر في 22/8) كتب الزميل محمد طعيمة
تحليلا سلط فيه مزيدا من الضوء على تفاصيل الأزمة داخل البيت الرئاسي، فذكر
أنه «لا أحد يعرف بدقة موقف علاء (49 سنة) من توريث شقيقه (46 سنة)، بين
دعم الأم وتحفظ الأب، لكن الشهور الأخيرة تشي بتقارب علاء مع موقف الأب.
وهو في هذه الجزئية يتفق مع د. علي الدين هلال في اعتباره ترشيح بديل للأب
في وجوده نوعا من قلة الأدب. روى الكاتب أيضا انه في أثناء العزاء الذي
أقيم بعد وفاة زميلنا محمود السعدني لاحظ بعض الحاضرين أن الأخوين حضرا
منفردين في توقيت متقارب، ولم يلتفت أحدهما تجاه الآخر، وانصرفا منفردين
أيضا، وهو ما اعتبره البعض جفوة غير معهودة بينهما.
(3) من المصادفات ذات الدلالة أنه بعد أيام قليلة (في 26 أغسطس) كان
العنوان الرئيسي للصفحة الأولى من جريدة الأهالي الناطقة باسم حزب التجمع
كالتالي: صراع في البيت الرئاسي بين مبارك وجمال. وكانت تلك هي المرة
الأولى التي تبرز فيها صحيفة مصرية في عناوينها الرئيسية فكرة الصراع داخل
البيت الرئاسي وليس فقط داخل الحزب الحاكم. صحيح أن المعلومات المذكورة في
التحليل لم تضف شيئا إلى ما سبق لصحيفة «العربي» نشره، بل أكدتها وأيدتها
وانطلقت منها. لكن صراحة عنوان «الأهالي» كانت لافتة للأنظار. الأمر الذي
يعني أن صراع البيت الرئاسي لم يعد يتداول همسا بين عناصر النخبة، ولكنه
أصبح «على الرصيف»، كما قيل بحق، وتزداد أهمية النشر بهذه الصورة إذا وضعنا
في الاعتبار، أن قيادة حزب التجمع تتحرك بتنسيق دائم مع أجهزة الدولة
وتحتفظ بصلة وثيقة مع قياداتها.
ذكر التحليل الذي نسب إلى المحرر السياسي للجريدة، الذي هو في العرف
الصحافي أهم شخصية في الجريدة والحزب أن «طرفي المعركة» في البيت الرئاسي
هما الأب والابن، وانها «بالقطع ليست معركة شخصية ولكنها تستند إلى مصالح
سياسية واقتصادية متعارضة داخل جهاز الحكم والحزب الوطني»، ونقل التقرير عن
بعض مراكز الأبحاث ومراقبين أجانب قولهم إن الابن الذي يشارك والده الحكم
منذ سنوات»، يستند إلى تحالف اجتماعي واقتصادي سياسي لجماعات المال
والأعمال المرتبطة بالنظام الحاكم. وتعدادهم ألفا رجل وسيدة، يمتلكون نحو
24٪ من الدخل القومي، أي نحو 200 مليار جنيه سنويا وارتباطاتهم بالغرب
وإسرائىل قوية». (تحدث المحرر السياسي في التقرير المنشور عن «فشل الابن في
إقناع القوات المسلحة بقبوله، كما أشارت بعض التقارير المنشورة في الخارج،
إضافة إلى عدم تقبل الرأي العام له»، واعتبر ان حملة تأييد الابن «بمثابة
بالون اختبار من القوى المؤيدة له في السلطة والحزب لمدى شعبيته في
الشارع». وهي الحملة التي تبرأت منها قيادات الحزب الوطني من الحرس القديم،
كما أشار السيد صفوت الشريف في الحوار الذي أجراه معه رئيس تحرير
«المصور»، مستدلا أيضا في هذا الصدد بما أعلنه المستشار عدلي حسين محافظ
القليوبية وأحد المقربين من الرئيس مبارك (في الحوار الذي أجرته معه جريدة
المصري اليوم في 22/8). وقال فيه: لا يوجد إطلاقا أي ملصق في القليوبية خاص
بالأستاذ جمال مبارك. وقد أصدرت تعليمات واضحة وصارمة لكل رؤساء الوحدات
المحلية في جميع أنحاء المحافظة، بمنع أي ملصقات للأستاذ جمال مبارك، سواء
من المعترضين عليه أو المناصرين له» (لاحظ أن السيد صفوت الشريف اعتبر
الملصقات المؤيدة للابن من تجليات ممارسة حرية التعبير!).
ختم المحرر السياسي للأهالي تقريره بقوله: «إن الفصل الأخير للصراع في
قصر الرئاسة لم يكتب بعد، فهناك فصول أخرى ستتوالى خلال الأشهر المقبلة».
(4) إذا صحت هذه المعلومات والتحليلات التي لم ينفها أحد، واقتصر جهدي فيها
على تجميع أطرافها مما نشرته الصحف. وبعضها ليس بعيدا تماما عن السلطة
وأجواء الحكم في مصر، فإنها تقودنا إلى عدة خلاصات منها ما يلي:
} إن تسرب تلك المعلومات إلى الصحف خصوصا ما تعلق منها بتباين المواقف
في بيت الرئـيس أمر لم نعهده طوال الثلاثين سنة الماضية. وأن ثمة تزامنا
بين عملية التسريب وبين الظروف الصحية للرئيس، التي شجعت الأطراف المختلفة
على التحرك لحسم ترتيب خلافته.
} إن جبهات الصراع متعددة، وتتجاوز حدود الحرس القديم والجديد. فالصراع
حاصل داخل البيت الرئاسي ذاته، كما أنه حاصل بين أصحاب المصالح والمنتفعين
من كل طرف وليس مستبعدا أن تكون بعض أجهزة الدولة المهمة طرفا في تلك
الصراعات، خصوصا تلك القوى التي لها كلمة ضرورية في الموضوع، لقيامها على
أمن البلد واستقراره.
} إن السياسات ليست موضوعا للـصراع، لأن الأطراف المتصارعة تقف على
أرضية سياسية واحدة، وارتباطها بالولايات المتحدة إسرائيل مقطوع به، كما
قيل بحق، متطوع به. ومن ثم فإذا كانت هناك خلافات بين تلك الأطراف فهي لا
تتجاوز حدود درجة ذلك الارتباط وليس نوعها، الأمر الذي يعني ان موضوع
الصراع هو النفوذ والطموحات والمصالح الخاصة. بكلام آخر، فإن ما يجري هو
صراع حول السلطة وليس لأجل الوطن.
} إن خيارات المستقبل بالنسبة للأطراف المتصارعة لا ترى لقيادة مصر إلا
أحد رجلين هما الأب أو الابن، وليس في حسبانها أي خيار ثالث يرتضيه الشعب
المصري. وهو ما ينسف كل ما قيل عن الديموقراطية والتعددية وإرادة الشعب،
ويقر بموت السياسة وصورية الأحزاب، وفرض الوصاية على الأمة. وارتهان
المستقبل لصالح الأسرة الحاكمة. وهذا كثير علينا، ومهين لنا، ولا أحسبه
يمكن أن يسهم في استقرار البلد أو يحقق له أمنه المنشود، ولا تسأل عن حلمه
في النهوض أو التقدم