hayfa
عدد المساهمات : 1563 تاريخ التسجيل : 24/01/2010
| موضوع: الحضارة القفصية: الخميس 10 يونيو 2010 - 13:45 | |
| هي أيضاً من حضارات العصر الحجري القديم الأعلى. تناولها الأستاذان في المناسبتين اللتين تناولا فيهما الحضارة الوهرانية, وتعليقاً على آرائهما اقتصر ـ كما في السابق ـ على إيراد هاتين النقطتين:
الأولى: تتعلق بالإطار الجغرافي الذي انتشرت فيه الحضارة القفصية. وهو حسب زعم الأستاذين لا يتعدّى تونس والجزائر في مناطق معينة من أرضيهما ويقولان عن الجهة الجنوبية" "إنها لم تتجاوز التخوم الشمالية للصحراء"(30). وخلافاً لهذا الزعم, هناك معلومات أخرى, تتحدّث عن وجودها خارج هذا الإطار, من ذلك ما توصّل إليه "ماكبرني" في كهف "هوافطيح" الذي عثر فيه على الآثار القفصية في الطبقة الخامسة من ترسباته المحددة بالمدة: "10.000 ـ 7.000 سنة من الآن"(31) وهذا أيضاً ينفي الإطار الجغرافي المحدد لهذه الحضارة.
الثانية: تتصل بالإنسان القفصي الذي ينتمي هو الآخر إلى سلالة "الإنسان العاقل". والأستاذان على خلاف العادة, أحجما هذه المرة عن التطرّق إلى أصله, واكتفيا بإعادة وجهة نظر قديمة لا يزال بعضهم يردّدها, تصنّف الإنسان القفصي ضمن سلالة أطلق عليها اسم: "ما قبل المتوسطي Proto-mediterraneen", وبقطع النظر عن هذا التصنيف الذي لا قيمة لـه من الناحية العلمية لكون مقولة "ما قبل المتوسطي" من المقولات الفضفاضة, فإن عدم خوض الأستاذين في علاقة الإنسان القفصي بما قبله من السلالات البشرية يثير التساؤل, خاصة أن موقفهما هنا اختلف عن موقفهما من إنسان مشتى العربي الذي ربطاه ـ كما رأينا ـ على المستوى الأنثروبولوجي, بالإنسان العاتري فالموستيري.
هذا التوجّه قادها إلى تجاهل معلومات مهمة, توصل إليها "ماكبرني", تؤكد أن القفصيين مجموعة مهاجرة, كما تدل على ذلك آثارها المكتشفة في طبقة فوق الطبقة التي اكتشفت فيها الآثار الوهرانية. وهذا ما جعل "ماكبرني" يقول إنه خلال الفترة: "10.000 ـ 7.000 سنة من الآن, حدث تحوّل عرقيّ آخر, نستطيع استنتاجه من التحول الراديكالي الذي حدث في الحضارة المادية". ويضيف: "في تلك الفترة يسجّل مجيء شكل ليبي للحضارة القفصية"(32).
وإذا كان الأمر هكذا, فمن أين أتت هذه المجموعة؟
"ماكبرني" في تحديده مصدر هذه الهجرة يقدم احتمالين (إمكانيتين):
1. أنها أتت من إيطاليا وصقلية وجزيرة "لوفنصو Levanzo"(33) حيث توجد حضارة "الإبي قرافيتيّان ـ Epi Gravettian". فمن المحتمل في رأيه أن يكون القفصيون الأوائل قدموا من هناك إلى تونس, ومنها في فترة لاحقة نزح بعضهم إلى "قورينة" حيث أنشؤوا ما سماه "ماكبرني" الحضارة "الليبية ـ القفصية". والداعي إلى هذا الاحتمال حسب تقديره وجود تشابه في الناحية الفنية والرسوم الهندسية بين التيارين: القفصي والإبي قرافيتيان. وممّا حمل "ماكبرني" أيضاً على هذا التصور, هو أن القفصية الليبية, في تقديره, ظهرت متأخرة عن شقيقتها في تونس.
لكن هذا الاحتمال مستبعد لما أكده الكثيرون من انعدام الصلة بين شمال البحر المتوسط وجنوبه قبل العصر الحجري الحديث.
2. أنها أتت من آسيا الغربية, أي من المنطقة العربية حيث يقول: "والإمكانية الأخرى هي أن الحضارة القفصية متفرعة عن آسيا الغربية حيث توجد نماذج أولية, نعتقد أنها توجد في حضارات مثل الكبران والسكفتيان Skiftian, Kebran"(34).
هذا الاحتمال الثاني (الإمكانية) واقعي وممكن, خصوصاً أن الإنسان القفصي فرع حديث متميز على المستوى الأنثروبولوجي والبنية الهيكلية, لا جذور محلية له. ومما يؤكد أنه جنس طارئ وعنصر مهاجر, دفعت به إلى المنطقة عوامل بيئية ومناخية, كتلك التي بدأت تشهدها منطقة غربي آسيا التي عرفت الجفاف في مرحلة مبكرة, وحسب بعض التقديرات, هناك فترة
عصيبة تمتد من 20 ألف أو 18 ألف سنة قبل الميلاد إلى 12 ألف سنة قبل الميلاد(35) شملت إفريقيا والجزيرة العربية, وبالرغم من كميات الأمطار وأثرها الإيجابي, فإن الجفاف في هذه الفترة صار ظاهرة واضحة نابعة من طبيعة التحول المناخي الكبير أي الانتقال من الدورة الجليدية الكبرى (ورم: Wurm) إلى الدورة الدافئة الحالية (منذ 15.000 أو 10.000 سنة ق.م) فالقفصيون من حيث تاريخ ظهورهم, لـه علاقة بهذه الوضعية المناخية وتبدّلاتها.
وهكذا تتضافر المؤيّدات على أن القفصيين هجرة شرقية, كما تتضح من خلال المعلومات المغيّبة الخلفية الفكرية للأستاذين التي جعلتهما يتوخيّان أسلوباً انتقائياً معيناً طامساً للحقيقة ومشوّهاً لها.
الفلاحة وتربية الحيوانات
عند الحديث عن العصر الحجري الحديث للبلدان المغربية, لم يذكر الأستاذان شيئاً عن الفلاحة والرعي. وكان هذا أمراً طبيعياً منهما تمشياً مع ما كانت عليه المنطقة في تلك المرحلة. لكن عند الحديث عن البلاد التونسية تغيّر الموقف. وذكر الأستاذان أن ساكنيها تعاطوا الفلاحة خلال هذا العصر. فقالا عن العصر الحجري الحديث القفصي: إن "أواني من الفخار تحمل بعض الزخارف وقطعاً مصقولة تستعمل لطحن الحبوب, مما يدل على أن المجموعة البشرية التي تنتمي إلى تلك الفترة بدأت تتعاطى الزراعة"(36). وقالا أيضاً أثناء حديثهما عن العصر الحجري الحديث المتوسطي في موقع "كاف العقاب" حيث عثر على مجموعة مهمة من العظام تنتمي إلى أصناف عديدة من الحيوانات(37) في تلك الفترة". كما أن سكان هذا الكهف حسب زعمهما كانوا "يتعاطون شكلاً بدائياً من الفلاحة"(38).
وكما هو واضح من كلام الأستاذين, فإن ممارسة العمل الفلاحي وتربية الحيوانات, قد وقع الاهتداء إليها في البلاد التونسية بصورة مستقلّة, فلم تكن وافدة أو متأثرة بعوامل خارجية. وبقطع النظر عن النوازع الذاتية للأستاذين فلا بد من مناقشة رأيهما في ضوء ما توفّر من معلومات حتّى الآن.
فالقول بأن سكان شمال إفريقيا تعاطوا الفلاحة ودجّنوا الحيوانات ليس جديداً. فقد قال قزال Gsell" سابقاً: "لم ينتظر أهالي هذا القطر (يقصد البلاد المغربية) قدوم الملاحين السوريين ليتعلموا تدجين المواشي والزراعة"(39). وتبعه آخرون, منهم على سبيل المثال "جيان ديزانج = J. Desanges" الذي قال: "إن البربر الليبيين لم يعرفوا الزراعة عن طريق الفينيقيين"(40). وأنّهم مارسوها منذ نهاية العصور الحجرية الحديثة. والقول إن الكنعانيين جلبوا الزراعة إلى إفريقيا الصغرى خلال الألف الثاني قبل الميلاد هو افتراض جزافي غير متروٍ"(41).
ويعتمد أصحاب هذا الاتّجاه بصفة عامة على ما وقع الكشف عنه من مخلفات أثرية كالفخار والمناجل الحجرية والعظمية, وكالمطاحن المنسوبة للعصر الحجري الحديث, وكذلك المدافن, وما تدل عليه من استقرار, وحياة اجتماعية معينة, فضلاً أيضاً على تأويلات لبعض الرسوم والنقوش المنتشرة على نطاق واسع في الصحراء في تاسيلي في جنوب الجزائر, وفي مرتفعات "تادرارت وأكاكوس" في فزان في ليبيا حيث اعتبرت بعض تلك الرسوم والنقوش تعبيراً دالاً على تعاطي الفلاحة والرعي.
ويقابل هذا الاتجاه, اتجاه آخر, يذهب إلى العكس من ذلك, وينفي تماماً أن تكون الجماعات المنتقلة من العصر الحجري القديم الأعلى إلى العصر الحجري الحديث قد عرفت الفلاحة وتربية الحيوانات. فعلى سبيل المثال:
ـ يقول "بالو": "فلا المناجل الموجودة بكلومناطة, ولا الكرات الحجرية المثقوبة, ولا المدقّات. ولا أدوات الحصاد تصلح أن تكون حجة تثبت وجود الفلاحة(42).
ـ ويقول إبراهيمي: "إذا كانت وسائل الطحن بما فيها من عدد وأنواع كالمطاحن والمهارس والرحى, في كل من (ن.أ.ق) و(ن.أ.س) لا تبرهن على وجود زراعة, فإن ذلك يشير بالتأكيد إلى الغذاء النباتي كان آنذاك أكثر انتشاراً منه في الحجري المتأخر"(43). [ن. أ.ق = نيولوتي ذو أصول قفصية ـ ن.أ.س = بيولوتي ذو أصول سودانية].
ويقول "هـ. ج. هوغو" عن سكان الصحراء: "إن تعاطيهم لصنع القدومات وأدوات العزق والهرس والدرس وغيرها لا يثبت بتاتاً أنهم أتقنوا عملاً معيناً من أعمال الفلاحة"(44).
ويقول في موطن آخر "لا وجود لدليل على الفلاحة عندما يستند فقط إلى وجود أشياء أو أدوات معروفة بأنها فلاحية"(45).
وهذا ما قاله باحثون آخرون, في مناطق أخرى من القارة الإفريقية, فالجميع يؤكّدون أن المناجل والمطاحن وأدوات العزق لا تدل في كل الظروف وبشكل قاطع على تعاطي العمل الفلاحي, إذ من الممكن أن تكون لأغراض أخرى, كقطع أنواع من الأعشاب, أو لطحن حبوب بريّة, أو موادّ تلوين, أو لاستخراج الطين. ولذلك يقول "ج.أ.غ سموتن "أثناء حديثه عن إفريقيا الشرقية في ما قبل التاريخ عن تلك الأدوات: "كل ذلك لا يكفي كدليل على وجود اقتصاد في ميداني الزراعة والرعي"(46).
أمّا في ما يتعلّق بتأويل بعض الرّسوم أو النقوش في جهة "تاسيلي" و"فزان" من كونها تعبيراً دالاً على تعاطي الفلاحة, فهو في تقديري تأويل متعسف قام على تخمين أجوف, وأكتفي هنا بإيراد ما قاله أحد المختصيّن الكبار في دراسة رسوم الصحراء ونقوشها. وأعني به "فابريتشيو موري Fabrizio Mori": إنّ الأجسام الملونة بهذا اللون قد تشير إلى أهمية الحياة الزراعية, ولكننا لا نملك من الأدلة ما يؤيد هذه النظرية"(47).
فهؤلاء الباحثون يجمعون على رفض الفرضيات والتقديرات الخاطئة, إذ هم يرون أن تعاطي الفلاحة في ذلك العصر لا يستدل عليه بتلك الأدوات الحجرية, وإنما أساساً بالاعتماد على أدلة أخرى, لها قيمتها العلمية, لا يشك فيها وذلك مثل:
ـ تحليل رواسب العصر الحجري الحديث على نطاق واسع, للحصول على أدلّة بلينولوجية صالحة إحصائياً, وهي برغم أهميتها, لم تطبق في شمال إفريقيا إلاّ في الصحراء وعلى نطاق ضيّق.
ـ وجود حبوب برية تثبت أصالتها في المنطقة, وهو ما يجعل الاهتداء إليها أمر ممكن.
ـ الحصول على نباتات أحفورية أي أن الحفريات تؤدي إلى العثور على نباتات معروفة, كما هو الحال بالنسبة للتين, فإن حفر الآبار والخنادق ساعد في كثير من المناطق على بروز شجرة التين من جديد.
أمّا الفخار, فهو عند الأثريين ليس دليلاً قاطعاً على تعاطي العمل الفلاحي. فكما يكون للفلاحة يكون أيضاً لأغراض أخرى, كجمع القوت, وحفظ بعض المدّخرات, وهو وإن كان من منتوجات العصر الحجري الحديث, فلا يعني ذلك أنه لم يوجد في ذلك الطور الأخير من العصر الحجري القديم الأعلى, أو في العصر الحجري الوسيط في بعض المناطق.
والمهمّ في هذه الناحية هو أنّ شمال إفريقيا لم تظهر فيه حتّى الآن أدلّة تثبت وجود نبات القمح والشعير في حالتها, البرية, وبالطبع فإن انتفاء مثل هذا النبات من شأنه أن يؤخر ظهور الفلاحة, ويجعلنا نفهم من بعض تلك المظاهر المحدودة في الجنوب التونسي, والأطلس الصحراوي, وغيرهما, الدالة على تعاطي العمل الفلاحي, والتي يمكن أن تكون معاصرة للعهد الفينيقي الأول أو متقدمة عليه. هي من عمل الجماعات الوافدة الحاملة معها مكتسبات الشرق الفلاحية والرعوية, ولا علاقة لها بتلك الجماعات الضعيفة ثقافياً والمنحدرة من الوهرانيين والقفصيين, في العصر الحجري الحديث.
والأمر في هذه الناحية لا يتعلق بالفلاحة وحدها, وإنما أيضاً بالرعي. فالمنطقة لم يتم فيها تدجين الحيوانات, وهو شيء طبيعي وأن الأغنام لا توجد فيها أصلاً, ولم يكن ضمن حيواناتها المتوحّشة, فالرعي دخيل بكل تأكيد, وسابق للفلاحة, وعن طريقه انتقلت المنطقة إلى الحضارة الرعوية. وكان ذلك من أقدم البدايات المكينة ـ قبل وصول الفينيقيين ـ في ربط منطقة شمال إفريقيا بالحضارة الشرقية, و"بحلول الحضارة الرعوية في سائر أنحاء المنطقة, لمع اسم "الشاويه" كتعبير أصيل عن هذه الحضارة منذ أطوارها الأولى كدليل لغوي وثقافي على انتمائها الشرقي الأصيل"(48).
وإذا كانت المرحلة الرعوية بهذه الأهمية التاريخية في علاقتها بمستقبل المنطقة, ورسم ملامحها, وتحديد توجهها العام. فإنه من المهم أيضاً معرفة بداية ظهور هذه المرحلة. والمنطقة الوحيدة في بلدان المغرب العربي التي توفّر لنا هذه المعرفة هي ليبيا, إذ هي بحكم موقعها الجغرافي كانت مدخلاً للتأثيرات البشرية والحضارية القادمة من الشرق. والمعلومات المقدمة في هذا الغرض وقع الاعتماد فيها على أبرز الدراسات وأعمال الحفر والتنقيب التي جرت في ليبيا.
ومن الباحثين المرموقين "موري" الإيطالي الذي قاد سبع بعثات, ضمن فريق من الأخصائيين إلى مرتفعات تادرارت أكاكوس" في منطقة فزان, على امتداد الفترة من 1955 إلى 1964 حيث درس الرسوم والنقوش المنتشرة على نطاق واسع, وقام بحفريات في عدة مخابئ, وفحص ترسباتها بالطرائق العلمية وتوصّل إلى تحديد خمسة أدوار للفن الصخري بهذه المرتفعات هي(49): ويهمنا من هذه الأدوار, الدور الثالث المتعلق بالرعي الذي درسه "موري" في عدة مواقع, ووجده حتّى على مستوى مادّة التلوين يختلف عن الأدوار السابقة واللاحقة. فكانت "مادّة ملوّنة أقلّ ثخناً, غير شفافة في الغالب"(50). وبالنظر إلى أساليب الرسم والنقش قد وقع تمييز ثلاثة أدوار داخل الدور الرعوي:
ـ الرعوي القديم, يمثله (أسلوب وان إميل).
ـ الرعوي المتوسط, يمثله (أسلوب وان طابو).
ـ الرعوي الحديث, يمثله (أسلوب بين عنيوين).
و(انْ إميل, وان طابو, بين عنيوين) مناطق ذات أساليب فنية مختلفة.
وسعياً لضبط الإطار الزمن لأدوار الفن الصخري, قام "موري" بالحفر في عدة مخابئ في كهوف ذات رسوم ونقوش. وتمّ فحص العينات المترسبّة بطريقة راديوكربونية. وفي ما يلي المواقع والتواريخ المتحصل عليها:
ففي: وان موهجاج ـ عثر على بقايا ماشية مستأنسة في الطبقات الوسطى والسفلى, أخذ منها هذين التاريخين 5500 ـ 4000 ق.م(51) وهناك تواريخ أخرى اقل زمناً أسندت إلى عينات من هذا الموقع(52).
وفي: فوزيجارن ـ في دوره الأسفل "أقدم ترسّب اكتشف في الأكاكوس إلى اليوم"(53), وحدّد تاريخ الرواسب السفلى والعليا بما فيها من موادّ فحمية 6000 ق.م [7900 تقريباً ـ 8072 (+ـ100) قبل الآن](54).
وفي: وان تلوكات (وادي إمها) ـ عثر على موادّ مختلفة في ترسباته حدّد تاريخها: 6754 (+-175) قبل الآن = 4800 ق.م(55).
ومن خلال فحص البقايا العظمية المعثور عليها في موقع (وان تلوكات), تبيّن لموري "وجود عناصر تتماثل مع المستودع الرعوي بوان موهجاج ـ الأخدود أ ـ 1960"(56) ويؤكّد "موري" على أهمية تاريخ "وان تلوكات" وعلى وجوب ربطه "بالحلقة الرعوية التي تنتمي إلى تحديدات زمنية أخرى. وأقدم هذه التحديدات في حدود منتصف الألف VI ق.م"(57) [أي الألف السادس], وهذا التاريخ يمكن أن يكون "بداية ثقافة تربية الماشية في هذا الجزء من الصحراء الكبرى"(58). والألف السادس في نظره فاصلة بين عهدين: عهد الرؤوس المستديرة وعهد الرعي, مفترضاً "أن الانقطاع في التسلسل بين فترة رؤوس المستديرة والفترة الرعوية لم تكن قصيرة ولم تكن ثقافياً خارج المجال"(59).
وفي شمال ليبيا في إقليم برقة توصّل "ماكبرني" إلى النتائج نفسها من خلال حفرياته في كهف "هوافطيح". ففي الطبقة السادسة من ترسبّات هذا الكهف. انطلاقاً من الأسفل. وقع العثور على أدوات العصر الحجري الحديث وعلى أثار تدجين الحيوانات.
أرّخت هذه الرواسب بـ 5000 سنة ق.م وقال "ماكبرني" بعد الفحص المعملي, وتثبيت النتائج: "في حدود 7000 من الآن, وقع تحول عميق أكبر, أثر في حياة الليبيين القدامى"(60), و"نستطيع اكتشافه في "هوافطيح" وفي مجموعة من الكهوف, درست من قبل ف.موري في فزان. ففي كلتا الجهتين ظهرت أول حيوانات أهلية وأصبح الناس رعاة لا صيادين(61).
ونوّه "ماكبرني" بأعمال موري فقال: "ساهم موري مساهمة فعالة بتحديده تاريخ سلسلة من الأساليب الفنية في كهف طباقي (Stratifi) وَانْ موهجاج, قرب غات. ففي هذه السلسلة, نستطيع أن نتعرف على الرعاة الأوائل بوضوح, ونستطيع أن نتبين أنهم قدموا في حدود 5000 قبل الميلاد"(62).
واعتماداً على المعلومات المتقدمة, فإن العمل الرعوي لم يكن ظاهرة محلية نابعة من الداخل, لعدم وجود الحيوانات المدجّنة في المنطقة. وهذا ما أكّده "ماكبرني" في قوله: "على كل حال فلا الأغنام ولا البقر يمكن أن تتكوّن وتتطوّر من الحيوانات المتوحّشة في إفريقيا الشمالية"(63).
والأمر في الحقيقة يبدو أنه شامل لإفريقيا كلها, إذ هي, في نظر الباحثين, مدينة في ما عرف بها من رعي للعالم الخارجي. وهو ما ذكره الباحثان رولان بورتير وجاك بارو: "فيبدو جلياً أنّها كانت مدينة لـه في ما يخصّ حيواناتها الأهلية"(64) ويردفان "أن تربية الحيوانات لم تتطور مستقلّة في جنوب الصحراء التي لم يكن فيها للحيوانات أيّ سلف ممكن للبقر والماعز والغنم المؤهلة, فهذه الحيوانات قدمت..."(65).
وبعد هذه الشواهد والآراء المتنوعة, هل من المعقول أن نصدق ما قاله الأستاذان عن تعاطي الفلاحة وتدجين الحيوانات في البلاد التونسية في العصر الحجري الحديث. هكذا!! في البلاد التونسية وحدها؟ إنّه لشيء مثير للحيرة.
وبما أنهما لم يقدما ما يثبت هذا الادّعاء, فلا مندوحة من وصف قولهما بأنه من قبيل المزاعم والنزعة الإقليمية المزيفة. وحتى لو سلمنا بأنه وقع العثور فعلاً في "كاف العقاب" على عظام خروف, فإنه في هذه الحالة ليس دليلاً على التدجين المحلّي, وإنّما على وصول الجماعات الرعوية القادمة من الجنوب إلى تلك الجهة. فالجفاف وضغط التّصحّر المتزايد دفعا ـ من غير شكّ ـ بالرعاة إلى النزوح إلى الشمال.
ونجد الأستاذ قراقب يوسّع من دائرة عمله الثقافي, فيشيع هذه المعلومة في الحقل المدرسي. فقد جاء في كراس التاريخ الخاص بالأساتذة (90 ـ 1991) في فقرة العصر الحجري الحديث في البلاد التونسية قوله: "وقد عرف الإنسان في هذه الفترة تحوّلاً اجتماعياً مهمّاً, إذ أصبح يتعاطى الزراعة ويربّي الحيوانات الأليفة"(66). والأمر هنا لا يتعلق بإشاعة معلومة مزعومة فحسب, وإنّما بمغالطة الأساتذة والتلامذة, وجعلهم يعتقدون أن تعاطي الفلاحة وتربية الحيوانات تمّ التوصّل إليهما, في المنطقة, بمبادرة محلية, ومن خلال التطور الثقافي الداخلي, وهو شيء لا يمكن أن يكون مقبولاً وتتحمّل مسؤوليته أطراف عديدة.
وفي كل الأحوال. فهو اكتشاف حديث, كان من المفروض أن يعلن للناس لأهميته التاريخية, لكن شيئاً من هذا لم يحدث, بل إن بعض الباحثين في "المعهد الوطني للتراث" لم يكن لديهم أيّ علم بهذا الموضوع, عندما سئلوا عنه, والحال أنهم زملاء الأستاذين, ويعملون جميعاً في مؤسّسة واحدة. وهذا من شأنه نزع المصداقية عن تلك المعلومة, وإثارة الشكوك, بصفة عامة, في أبحاث كثيرة تبدو متلفّعة بالعلمية والموضوعية المكذوبتين.
وهكذا نصل في النهاية إلى أن شمال إفريقيا لم يعرف الرعي والفلاحة في فترة العصر الحجري الحديث, وأن هذين الإنجازين تمّ إدخالهما إليه عن طريق الجماعات الوافدة من الشرق.
وبما أن الرعي سابق للفلاحة, فإن تاريخ دخوله إلى شمال إفريقيا كان في بداية الألف الخامسة قبل الميلاد في ليبيا, ومنها اتّجه شمالاً إلى كامل المنطقة.
وتاريخ ظهور الرعي هو في الوقت نفسه تاريخ وصول الجماعات البربرية الأولى الذي شكّل تحوّلاً فريداً من نوعه, أدّى إلى ربط المنطقة بالحضارة الشرقية, وجعلها منيعة لا تؤثر فيها ثقافات وافدة قوية, من أمثال اللاتينية التي دامت قروناً طويلة (ما يزيد على سبعة قرون ونصف القرن: العهد الروماني والوندالي والبيزنطي).
(1) سميت بذلك نسبة إلى مكان في فرنسا, يدعى: موستيري Moustiers.
(2) نسبة إلى العاتر الواقع في جنوب تبسّة في الجزائر, أين وقع العثور عليها للمرة الأولى. تميزت بإضافة مقبض (ذنب) إلى أدواتها الحجرية.
(3) سمّيت بالوهرانية نسبة إلى "وهران" اكتشفها أول مرة "ب. بالاري P.Pallary وهو معلم بسيط, وذلك سنة 1909 راجع البربر عرب قدامى, للمؤلف ـ طبعة ثانية 2000 ص 150.
(4) سميت بذلك نسبة إلى مدينة "قفصة" الواقعة في الجنوب الغربي للقطر التونسي. اكتشفها الطبيب والمؤرخ "فوبير Dr. Gobert" راجع البربر عرب قدامى ـ للمؤلّف. تونس 2000.
في نطاق(1)الاحتفال بشهر التراث، تمّ يوم 27 نيسان أفريل 1994 عرض نقائش وصور خزفيّة، تبرز جوانب مهمّة من حضارة المنطقة في العهد البوني والبربري القديم. كانت فعلا تعبيرا يجسّد أصالة المنطقة وعراقتها التاريخية، بعيدا هذه المرّة عن الرومنة" وتوجّهاتها الطامسة لمآثر هذه المنطقة والحاجبة عن عمد، في حالات كثيرة، حقيقتها الثقافية المتميّزة. وإنّ عملا مثل هذا، لـه أهميّته، إذ يأتي في نطاق المنحى التحرري من تأثيرات المدرسة التاريخية الاستعمارية، وتشويهاتها لتأريخ المنطقة، كما أنّ هذا وغيره من الجهود الفكرية والأبحاث العلمية سيساعد على إعادة النظر في الأطروحات الخاطئة في كتابة تاريخ المنطقة من منظور جديد. وهو ما يعدّ خطوة مهمّة لا في اكتشاف الأرومة الحضارية لهذه المنطقة. وإنّما أيضاً لدعم توّحدها وإحباط النزعات الانقسامية والتوجّهات الطائفية المشبوهة.
والمهمّ في هذا الصدد، التوقّف عند كتاب صغير أصدره المعهد الوطني للتراث، بإسهام عدد من باحثيه، بعنوان: أسلاف البربر ـ تضمّن معلومات متنوّعة قيّمة عن المعتقدات والمقابر والكتابة والفخار والنقود والشعائر الجنائزية والتأثيرات المصرية والعلاقات بين اللوبيين وقرطاج. والذي يسترعي النظر أن هذه الموضوعات كلّها تتناول حياة اللوبيين القدامى من جوانب مختلفة، ومع ذلك جاء العنوان خاليا من اسمهم. كما أنّ تأليف العنوان على هذا النحو: أسلاف البربرـ بدا غريباً وشاذا، إذ البربر ليسوا مجموعة واحدة، يمكن أن نطلق على من سبقها "أسلاف". فكلمة "بربر" علم شاع إطلاقه على سكان شمال إفريقيا بمن فيهم من أطلقت عليهم تسمية اللوبيين. وبهذا كان العنوان مفتعلا وملفّقا، ممّا يوحي بالريبة في عملية الانتقاء، وبتدخّل النزعة الذاتية اللاّموضوعية في تقنين المادّة العلمية وتصنيفها. وهو ما يورث في النهاية التشويه والمعرفة الخاطئة.
والأمر هنا لا يقتصر على عنوان الكتاب وحده، وإنّما يشمل أساسا ما كتبه السيد حسين فنطر، بشأن أصل السكان، تحت عنوان: اللوبيون أسلاف البربر ـ وهذا أيضاً غير صحيح، بل هو مخالف تماما لما نعرفه عن سكان المنطقة منذ الألف الثانية قبل الميلاد. وإذا كان اليونان، ومن بعدهم الرومان، يطلقون اسم "اللوبيين" على سكان شمال إفريقيا، فلا يعني ذلك فعلا أنهم كانوا يسمّون بهذا الاسم، أو أنهم لا يحملون أسماء تخصّهم. ومن هنا وجب التحرّي طالما أنّ الأمر ممكن، وأنّ المعلومات الصحيحة والثابتة متوفّرة، وإذ تساءل بعضهم عن اللوبيين من هم؟ وما سبب إطلاق تسميتهم على سكان شمال إفريقيا في تلك المرحلة التاريخية البعيدة؟ فالإجابة نجدها في السجلات المصرية، وفي الوثائق المكتوبة "بالهيروغليفية". وكان ذلك منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد. في عهد الملك الفرعوني رمسيس الثاني (1298 ـ 1232 ق.م)، من الأسرة 19، حيث وقعت الإشارة في مدّوناته للمرة الأولى إلى "الليبو" (1)، وتوالى ذكر هذا الاسم في سجلات أخرى، من أهمّها "نقش الكرنك" للملك "مرنبتاح" في حدود 1227 ق.م. من الأسرة التاسعة عشرة للدولة المصرية الحديثة، الذي سجّل فيه انتصاره على اللوبيين ومن تحالف معهم من "شعوب البحر" الذين هجموا على الدلتا للاستقرار بها، تخلّصا من الصحراء ومن أيّ ضغوط أخرى. قاد هذا التحالف الكبير "مارابي أو مريبي بن دد" رئيس قبيلة "اللّيبو". وجاء في نص الكرنك: "أن رئيس الليبو الخاسئ مارابي بن دد" انقضّ على إقليم تحنو برمته..." (2). ومن قبائل المنطقة المشاركة في هذا التحالف: القهق والمشواش. كما ورد اسم "الليبو" في نقوش رمسيس الثالث (1198 ـ 1166ق.م) الذي ردّ هجمتين قويتين من الغرب على الدلتا كانت الأولى متكوّنة من قبائل المنطقة: الليبو والسبد والمشواش بمؤازرة شعوب البحر الأوروبية. ويشار إلى اسم "الليبو" في المصادر المصرية بالحرفين (ر.ب). ولهذا قرأها بعضهم: "الريبو" بالإبقاء على الراء من دون إبدالها باللام. وذلك راجع إلى عدم التفطن إلى "أنّ نظام الكتابة المصرية لا يعرف اللام" (3) وأنّ الراء فيها كثيراً ما تنطق لاما ولذا فإن (ر.ب) تقرأ (ل.ب) أي ليبو أو اللّيبو.
ورد اسم "الليبو" أيضاً في التوراة (العهد القديم) بهذه الصيغة "لوبي" و"لوبيم"(2).
والوثائق المصرية كما ذكرت "الليبو"، ذكرت أسماء أخرى، الأمر الذي يدلّ على أنها كانت تسمّي الجماعات المجاورة لها من الغرب بأسمائها، من دون تعميم اسم واحد منها على البقية. ونظرا لأهمّية المجموعات اللوبية، فإنّ المصادر المتعلّقة بالتنظيم الإداري الفرعوني تحدّثت عن المديرية الثالثة من مديريات الوجه البحري، وذكرتها باسم "المديرية اللوبية" 04) وأشار سترابون (5) (جغرافي يوناني توفي 65م) إلى وجود مديرية بهذا الاسم قرب الدلتا، وهو ما تؤكده المصادر العربية بوضوح. فقال ابن عبد الحكم: "لوبية ومراقية، وهما كورتان من كور مصر الغربية ممّا يشرب من السماء ولا ينالها النيل" (6). وكرر ابن خُرداذُبه هذا، أثناء حديثه عن إجلاء البربر من فلسطين. فقال "حتى انتهوا إلى لوبية ومراقية، فتفرّقوا هناك" (7). والواضح من المعلومات المتقدّمة، هو أنّ قبيلة "الليبو" من القبائل الكبرى المنتشرة ـ حسب رأي بعض المختصّين ـ في المناطق الشرقية من ليبيا (8)
أمّا إشاعة اسمهم وإطلاقه على سكان شمال إفريقيا، فهو من صنع اليونان الذين تعود صلتهم بليبيا إلى القرن الثامن قبل الميلاد. وقد أسّسوا بها أولى مستوطناتهم (قورينه) في حدود 631 ق.م ويبدو أنهم كانوا يطلقونه على مناطق سكانهم وتحركاتهم، ثم أشيع بالتدرّج على كامل المنطقة، ويقال أن "هيكتيوس" هو أوّل من عمّم هذا الاسم، وتبعه "هيرودوتس" ومؤرخو اليونان وجغرافيوهم (9).
وعن اليونان أخذ الرومان هذه التسمية المعمّمة. والذي جعل اليونان يعمّمونها هو المكانة البارزة التي تحظى بها قبيلة أو قبائل "الليبو" فقد كانت لها الزعامة والقيادة العسكرية على ما عداها من القبائل الأخرى. وقادت حملتين على دلتا مصر. الأولى في عهد "مرنبتاح" والثانية في عهد رمسيس الثالث. هذا النفوذ جعل اسمها هو الغالب، وهو ما سوّغ لليونانيين تعميمه على سائر منطقة شمال إفريقيا، وهو في هذا، يشبه اسم "حِمْيَر" الذي أطلق على سائر سكان اليمن في القديم، مع أن الحِمْيَريين ليسوا إلاّ مجموعة من القبائل اليمنيّة توصّلت إلى الحكم قبل الميلاد بقليل.
فإطلاق اسم "الليبو" على كامل شمال إفريقيا وسكانه هو من قبيل إطلاق الجزء على الكل. ومن هنا نعلم أنّ "الليبو" ليسو أسلاف البربر كما يزعم السيد فنطر، وإنّما هم جزء منهم، كانوا يقطنون كما تقدّم في المناطق القريبة من ليبيا.
نأتي الآن إلى ما قاله السيد فنطر بشأن "أصل السكان". وهو موضوع ـ كما نعلم ـ أصبح شائعاً من جرّاء التعقيدات التي نسجت حوله، والصراع السياسي والثقافي الذي بات يكتنفه. وذلك بسبب التشويه وتحريف الحقائق اللذين قامت بهما المدرسة التاريخية الاستعمارية منذ النصف الثاني من القرن الماضي، متوخيّة في ذلك أساليب أكاديمية وطرائق من البحث والوصف لم تكن معهودة من قبل. كان لها تأثير واسع في عقول الكثيرين. فخلقت بأطروحاتها قناعات مسلّما بصحّتها. كوّنت الخلية الثقافية لأصحاب التوّجهات الإقليمية، والنزاعات الطائفية التي بدأت تفرّخ في المنطقة. وعمل العلم الاستعماري على تحطيم وحدة السكان في المنطقة، وبلبلة عقول أفرادها، وذلك كما قال أحدهم بإدخال "الاضطراب على مجرى أفكارهم، وتحطيم أسس المعتقدات التي بها يؤمنون، والقضاء على التقاليد والمفاهيم التي بها يتشبّثون" (10) وهكذا فإن التحليلات العلمية المزعومة لم تزد مسألة "أصل السكان إلاّ تعقيدا وإرباكا. فماذا قدّم السيد فنطر في شأنها؟ ثلاث روايات. الأولى لهيرودوتس مضمونها أنّ "المشواش": يدّعون أنّهم منحدرون من أصل طروادي" (11). وهي كما يرى السيد فنطر، تنسب الأفارقة إلى أصول آسيوية. وطروادة مدينة آسيوية قديمة واقعة على شط البوسفور في الغرب من تركيا، عثر على خرائبها تحت الرمال. والثانية للمؤرخ اللاتيني "صلوست" تحدث فيها عن بطل يوناني (هرقل) مات في إسبانيا، وتبعثرت فلول جيشه المتكوّن من الميديين والأرمن والفرس الذين تحوّلوا إلى إفريقيا، فاختلط الميديون والأرمن باللوبيين. وتحرّف اسم الميديين إلى "الموريين". أما الفرس فقد اقتربوا من المحيط واختلطوا بـ "الجداليين" (12). فهذه الرواية تميّز كما هو واضح بين هذه الأقوام الثلاثة الدخيلة، وبين السكان الأصليين من "لوبين وجداليين". الثالثة للمؤرخ "بروكوب" تحدّث فيها عن أقوام حملتهم ظروفهم على الهجرة من أرض كنعان إلى شمال إفريقيا الذي وجدوه عامرا بأهله (13).
هذه الروايات الثلاث، لم نجد حتّى الآن، في المعلومات المتوفّرة على أكثر من صعيد، ما يعضّدها ويجعلها على الأقلّ ضمن الاحتمالات الممكنة. فقد وقع بعضهم في الخطأ ـ ومنهم السيد فنطر ـ عندما ربط بين الماكسيين Maxyans الذين ذكرهم "هيرودوتس" والذين استقرّوا كما يقال ـ في الجنوب التونسي، وبين المشواش الحقيقيين والذين تقدّم ذكرهم، وهم من المجموعات الكبيرة، تذكر السجلاّت المصرية أنّ اسمهم لمع من عهد الملك "تحتمس الثالث" (1504 ـ 1450 ق. م)، من الأسرة الثامنة عشرة، حيث ذكر اسمهم على جزء من آنية فخارية من قصر الملك "أمنتحب الثالث" حيث جاء في السطر الأول ما يدلّ على وصول أوان تحتوي على دهن طازج من أبقار المشواش" (14) كما استعملهم رمسيس الثاني في جيشه. وكان هذا الاسم ـ كما مرّ بنا ـ ضمن الأسماء المسجلة في نقش الكرنك وفي نقوش رمسيس الثالث حيث ورد اسمهم ضمن الهجمة الأولى بزعامة "الليبو" وفي الهجمة الثانية التي تزعّمها هذه المرّة "المشواش" أنفسهم، بتحالف مع قبائل أخرى: الليبو، والأسبت والقايقش والشيتب والهسا والبقن. فجاء في نصوص هذه الهجمة: "...... وانقضّ المشواش على التحنو وأصبحوا رمادا. وقد خرّبت مدنهم ولم يعد لهم وجود..." (15). هؤلاء المشواش هم الذين استقرّوا في مصر بعد مرورهم بالظروف السابقة. وتمكّن قادتهم من الوصول إلى السلطة، وأصبحوا في النهاية ملوك مصر وفراعنتها. فكانوا أصحاب الأسرتين: 22 و 23 ولذا فالإيهام بأنهم من أصل طروادي لا أساس لـه من الصحة.
أمّا رواية صلوست فهي من الروايات المشكوك فيها، لارتباطها بالأساطير اليونانية. لذا طعن فيها كبار المؤرخين، ولم يهتمّوا بها. ومنهم على سبيل المثال "جوليان" الذي قال في شأنها: "توغّل الفرس والميديون (les medes) والأرمن في إفريقيا، بعد موت هرقليس ليس إلاّ أسطورة رواها سالوسطس (Salluste) لا نصيب لها من الصحة (16).
أما الرواية الثالثة، رواية "بروكوب" فمن الواضح أنّها مستقاة من المصادر الشرقية، إذ هي من الروايات المعروفة لدى الإخباريين الذين تحدّثوا بطرائق مختلفة عن خروج البربر من فلسطين وأسبابه (17). هذه الرواية بقطع النظر عن الشك الموجه إليها، كان يجب أن توضع ضمن الروايات الأخرى من عربية وبربرية، وأن يكون الموقف منها هو الموقف العلمي من الروايات الشفهية بصفة عامة. فلا ينبغي أن يكون هذا الموقف القبول أو الرفض الاعتباطيين. وإنّما يكون بوضعها في إطار ما وفّرته المصادر الأخرى من آثار ووثائق مكتوبة، وعلم أسماء، وعلم اللغة المقارن، وما يتعلّق بالنظم والتقاليد والأعراف وغير ذلك من مختلف مصادر المعرفة، وهو ما يجعلنا نتبيّنها ونستفيد منها بوجه من الوجوه. "فالرواية الشفهية من مصادر المعرفة التاريخية. وإنّ أولى خزاناتها ـ كما قيل ـ أدمغة الرجال، لا يمكن الاستغناء عنها في بعض المراحل من تطور المعرفة الإنسانية. فهناك حضارات متعدّدة، كما في إفريقيا، اعتمدت في ماضيها على الكلمة والرواية الشفهية، وقد اتّخذ المؤرخون من ذلك سبيلا إلى دراسة الحضارات والتعرّف عليها. والمعروف أن ذاكرة الشعوب قادرة على اختزان أشياء كثيرة من الماضي البعيد. وقد لاحظ بعضهم بناء على ما عرفوا من أحوال عدد من الشعوب، أنّ الذين لا يكتبون هم أقوى ذاكرة (18) والسيد فنطر لا يفعل هذا. وهو وإن طاب خاطره بعرض الروايات الغربية فإنه ـ بالنسبة للروايات العربية ـ من المعرضين عنها، والرافضين لها رفضاً مسبّقا. وهو توجّه بعيد تماما عن الطرح الموضوعي لمثل هذه القضايا. تحكمه نوازع ذاتية وخلفيات فكرية معينة. والأمر هنا لا يقتصر على الروايات العربية وحدها، وإنما يشمل أيضاً الروايات البربرية وما قاله النسّابة من مختلف الطبقات في أصل شعوبهم. ويبدو أنّ هذا الإهمال أو هذا الموقف مرجعه إلى أنّ الروايات البربرية ـ كالعربية تماما ـ تقرّ بالنسب الشرقي للبربر، الشيء الذي يعدّ مرفوضا من الأساس من أصحاب هذا التوجّه، ولا يمكن أن يكون هذا من الموضوعية والعلم في شيء.
والسيد فنطر بعد عرضه تلك الروايات، عاد من جديد إلى نقطة البداية، وتساءل ثانية عن أصل البربر، معلنا أنّه "يجب الاعتراف بجهلنا على الفور، وبلا أدنى تردّد، فلسنا في النهاية أكثر معرفة من سابقينا" (19). وهذا الكلام وإن كان ينبئ بالدوران في حلقة مفرغة، إلاّ أنّه لا يعني أن السيد فنطر استنفد كل ما في وفضته من معلومات عن البربر. فقد احتفظ لنا بعد ذلك العرض بما يكن عدّه من قبيل المفاجأة؛ إذ هناك ما هو ثابت لديه من العناصر في ملفّ القضية، من شأنه أن يسهم في تحديد المجموعة البربرية وتمييزها، كما في قولـه: "إنّ اللغة البربرية لا تنتمي إلى عائلة اللغات السامية من دون شك"(20)!! وهو هنا، بهذا القطع، يستبعد الأطروحات القائلة بالانتماء الشرقي للبربر. والتي على حدّ تعبيره "لا تصمد أمام علم اللغات" (21). وهذا الحكم الباتّ الذي أصدره السيد فنطر لا ندري كيف تأتّى له؟ والحال أنّه ليس من العالمين باللغات السامية والبربرية، ولا من المختصين في علم اللغات المقارن. يضاف إلى هذا أن هناك أبحاثاً لغوية عديدة تفنّد تماماً زعمه. وتثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ العلاقة المتينة بين اللغة البربرية وما سمّي باللغات السامية. وهذا يعني أن السيد فنطر لم يكن مطلعاً على تلك الأبحاث، وأنّه استند في قوله السابق إلى ما كانت تروّجه المدرسة الفرنسية من نظريات شتّى بشأن أصل البربر. فقد صرح في أكثر من مناسبة "أنّ البربر حاميّون". وصمته هذه المرّة عن إعادة ذلك قد يكون لجديد جدّ عنده.
والمعروف أنّ المدرسة التاريخية الاستعمارية، بعد أن سقطت نظرية الأصل الأوروبي للبربر، بحثت عن نظرية جديدة، تناسب أغراضها، وتكون في الوقت نفسه مرتكزة، في الظاهر، على أساس علمي يسهل ترويجها. فوجدت ضالتها في "النظرية الحامية" التي نشأت في ألمانيا. ومنها انطلقت إلى بقية أوروبا. ولم يلبث علماء اللسانيات الألمان أن تخلوا عنها لنقائصها، ولما جدّ من جديد في ميدان البحث اللغوي المقارن. إلا أن المدرسة الفرنسية تمسّكت بها منذ العشرينات. ومن أقطابها "دولافوس M. Delafosse" الذي وضع تصنيفاً سنة 1923 في اللغات الإفريقية، ومنها "الحامية" التي تشمل في نظره: "البربرية والمصرية والكوشية". ونظرا لتقدّم الأبحاث، وما أثبتته من صلات بين "الحامية" و"السامية"، فإنّ الباحثين صاروا يعدونهما مجموعة واحدة ويطلقون عليهما معاً: "السامية ـ الحامية". لكن هذا أزعج المدرسة الفرنسية ذات التوجّه الاستعماري التي رأت في المقولة الجديدة تأكيدا لأواصر القربى بين البربرية والسامية، خصوصا العربية، حتى أنّنا نجد الفرنسي "أ. موي A.Meillet" يعلن في حزم "من المستحيل إرجاع السامية والبربرية إلى أصل واحد" (22).
ونظرا لفجاجة النظرية الحامية ونقائصها، فقد طعن فيها الباحثون من وجوه عدّة، خصوصا أنها على العكس من المجموعات اللغوية الأخرى، تفتقر إلى الوحدة اللغوية الداخلية. وممّا قاله "رسلر" في شأنها: "في الواقع أن الوحدة داخل الأسرة الحامية لم توجد أبدا" (23). وأدّت الأبحاث في النهاية إلى إخراج المصرية من بوتقة الحامية في وقت مبكر. وانتقد "روسلر" المدرسة الفرنسية للبربريات وأساليبها المتوخاة. فقال: نجد أنّ هذه المدرسة الفرنسية الكلاسيكية للبربريات والتي اقترن اسمها بروني باسيه Rene Basset تترك عن عمد مسألة القرابات بين الساميات" (24) كما انتقد "موي Meillet" في رفضه السابق إرجاع البربرية والسامية إلى أصل واحد. فقال: "ونحن مع تقديرنا لهذا الحكم. فإن مجرد التفكير في إرجاع السامية والبربرية إلى أصلين مختلفين
غير معقول، حتى ولو لم نتمكّن إطلاقاً من البرهنة على انحدارهما من أصل واحد. (25).
والمشكل في نظر هذا الباحث يكمن في عدم مراعاة قرابة البربرية من السامية، وفي التجاهل المتعمّد لهذه القرابة، حيث تمّ الاتفاق بكل سهولة على عدّها لغة حامية، وهكذا أصبح حتّى غير المختصيّن في البربريات يسقطون أحكامهم المستخلصة من الحامية على اللوبية (26).
وبالطبع، فإنّ المدرسة الفرنسية على اختلاف وجهات نظر أقطابها، لا يمكن أن تظلّ متجاهلة لهذه الطعون، وأنّه لا مفرّ لها من تعديل موقفها على وجه من الوجوه. فكان هذه المرّة على يد "مرسال كوهين Marcel Cohen" (27) الذي رفض الجمع بين السامية والحامية في مجموعة واحدة، وزعم أن هناك أربع مجموعات لغويّة، هي: البربرية والمصرية والكوشية والسامية. وأنّ ما يجمع بينهما من مشابهات لغوية يرجع إلى أنّها في الأساس متفرّعة عن أصل قديم مشترك. هكذا تمكن "كوهين" بفضل هذا التصنيف الجديد، من إيجاد حل مناسب للإشكال القائم، فهو من ناحية، لم ينف التقارب بين البربرية والسامية، ولكنه من ناحية أخرى، جعل البربرية مجموعة متميّزة مستقلّة، وأنّها والسامية فرعان لا يمكن أن تكون إحداهما تابعة للأخرى، وأن انتماءها معاً إلى أصل مشترك، لا يغير من الحقيقة في شيء.
بهذه الطريقة التأويلية تمّ فصل البربرية عن العربية، وعزلهما عن بعضهما. وهو بيت القصيد. وقد غذّت هذه النظرية التوجّهات الطائفية للنزعة البربرية في الجزائر، حتّى أنّ سالم شاكر أحد المنظرين الطائفيين اعتمد عليها في مناظراته وتحليلاته اللغوية الفجّة.
فالمدرسة الفرنسية من "لويس رين Luis Rinn" (28) في القرن الماضي، حتى الآن لم تتخلّ أبداً عن مخطّطها الهادف إلى عزل البربرية عن محيطها اللغوي الشرقيّ. وما يزال هذا المسعى متواصلا بأدوات فرنسية وغير فرنسية. لكن هذا كله لم يكن بوسعه حجب الحقائق الجديدة التي أكّدت الطبيعة السامية للغة البربرية، وعلى أنّها ذات علاقة متينة بشقيقاتها الساميات. وهو شيء غاية في الأهمية، تمّ التوصّل إليه من خلال أبحاث مختصّة، اعتمدت المقارنة في مجال الأصوات، والنحو والتصريف والبنية الداخلية للمفردات والتراكيب والمعجم اللغوي وغير ذلك من أوجه التشابه اللغوي الأخرى. ومن الباحثين الذائعي الصيت، في هذا الميدان عالم البربريات الألماني "روسلر Rossler" الذي قال: "إن اللّوبية هي ساميّة في واقع أمرها، وإنّه لا يمكن ولا يجوز فصلها عن الساميات" وقال: "فاللوبية ذات علاقة متينة مباشرة بالسامية" وقال: "فالتصريف في اللّوبية برهن على أنّها جدّ سامية" وقال قبله عالم البربريات والساميات "هنزشتمّا Hans Stumme" من "وجهة نظري إن البربرية أقرب إلى السامية بكثير من المصرية" (32). وهذا أيضاً ما أكدّه العالم الإنكليزي "فرنسيس وليام نيومان Frances Willam Neman" الذي يرى هو الآخر أنّ البربرية "سامية" وقد وصفه "روسلر" بأنه عالم البربريات الشهير" (33). وهناك غربيون آخرون ممّن يرون هذا الرأي. ومن دارسينا "محمد المختار السوسي الشلحي" الذي أبرز أوجه الشبه بين العربية والشلحية. و"محمد الفاسي" وعثمان سعدي الشاوي "اللذان أبرزا نواحي مختلفة من أوجه الشبه بين العربية والبربرية.
وتصنيف البربرية ضمن مجموعة "اللغات السامية" يزعج بكل تأكيد الرافضين للانتماء العربي للمنطقة، إذ إنّ أهميّة هذا التصنيف العلمي، تكمن في أنّه جعل البرابرة للمرة الأولى أشقاء العرب، ومنتسبين معا إلى أصل واحد وأرومة واحدة. وكان هذا أول انتصار يُسجل ضدّ المدرسة التاريخية الاستعمارية على صعيد المعرفة، وأوّل خطوة في كنس المعلومات المغلوطة التي تحوّلت لدى المثقفّين الغارقين في حماة الاستعمار الثقافي إلى قناعات لا تدحض" (34).
ولكن ما مقولة "السامية" هذه التي باتت مصطلحا رائجاً على نطاق واسع؟ إنها في الحقيقة ـ ومثلها الحامية ـ مقولة ذات أصل خرافي من صنع الفكر اللاهوتي الاستعماري، لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة، ولذا طعن فيها العديد من الباحثين. فالشعوب المسمّاة بهذا الاسم، هي باتّفاق الجميع من الجزيرة العربية، وأنّ لغاتها لم تفهم عند اكتشافها إلاّ بالرجوع إلى العربية التي تمثّل حسب تقديرهم نسبة تقارب أو تزيد على 80% من معجم هذه اللغات. وبدل أن تسمّى "شعوب الجزيرة العربية القديمة" أو "الشعوب العربية القديمة" كما اقترح بعضهم، فإنّهم يسمّونها "بالسامية" مخالفين بذلك القاعدة المتبّعة في تسمية الأسر اللغوي بالاسم الذي يدلّ على مواطنها الأولى. وهو الاسم الذي تحمله عادة أقدم لغاتها وأهمّها. ولذا فإنّه يتعيّن أن يحلّ مصطلح "عربي" و"عربية" مكان "سامي" و"سامية". وما أريد تأكيده، بهذه المناسبة، هو أنّ البربر ما هم إلاّ عرب قدامى (35)، توافدوا على المنطقة على مراحل، حاملين معهم تنوّعهم اللغوي وأنماطا شتى من عاداتهم وثقافاتهم الشرقية.
وهكذا يتّضح لنا ـ بعد هذا العرض ـ أنّ ما قاله السيد حسين فنطر من أن اللغة البربرية لا تنتمي إلى اللغات السامية، قد استمدّه من أطروحات المدرسة الفرنسية، وممّا بات يشيعه أصحاب التوجّه البربري الطائفي في الجزائر، لكن لماذا صمت هذه المرة عن ذكر الحامية؟ أكان ذلك منه اقتداء بمرسال كوهين؟ أم أنّه عزف عن ذكرها لسبب آخر؟
ومن دون أن نغرق في التخمينات، فالسيد فنطر وإن حرص في قولته السابقة على نفي انتساب البربر إلى المشرق، فإنه أيضاً كان يمهّد لذكر ابتكار جديد تفتّقت عنه عبقرية المعهد الوطني للتراث. فقد توصّل الأستاذان: عبد الرزاق قراقب، وعلي مطيمط، في دراستهما لما قبل التاريخ؟، إلى معرفة الأصل البشري الذي انحدر منه البربر. فقد قالا: "كما تثبت الدراسات أيضاً أنّ ما يسمّى بالعنصر "البربري" يحمل بعض علامات مستمدّة من إنسان "مشتى العربي"، غير أنّ التأثيرات القبصية تعد أكثر تواجدا. يكوّن إذاً العنصر القبصي الأصل المباشر للإنسان اللوبي (أي البربري) وقد أضيف إلى هذه العناصر تأثيرات خارجية قادمة من الصحراء ومن بقية بلدان البحر الأبيض المتوسط" (36).
وإنسان مشتى العربي و" الإنسان القفصي هما من سلالة العصر الحجري الأعلى. الأوّل كما يقول الأستاذان يعود إلى 18 ألف سنة قبل الميلاد والثاني إلى الألف العاشرة قبل الميلاد.
والأستاذان بالرغم من خطورة هذا الابتكار، لا يقولان لنا ما هي "بعض العلامات!!" هذه الموروثة، والتي ما يزال البربري الحالي يحملها عن ذيْنك الإنسانين: المشتوي والقفصي؟ ولا يقولان أيضاً كيف توصّلا إلى معرفتها من خلال ما ثبت لديهما من الدراسات، إنّه في الحقيقة مجرد كلام ألقى به على عواهنه. ولا مندوحة في مثل هذه الحالة، من وصفه "بالتلفيق" الناجم عن تحكّم النوازع الذاتية وتوجّهاتها اللاّعلمية. ونجد السيد فنطر يعيد علينا الرأي نفسه. فيقول: "فالذين يحملون اليوم اسم "البربر" وسمّاهم القدماء لوبيين أو أفريين" يبدو أنّهم أحفاد المشتويين والقفصيين... وانضاف إلى هذا العنصر المشتوي عناصر أخرى من الجنوب ومن الشمال عبر البحر والصحراء" (37).
وهنا نلاحظ أن الأساتذة الثلاثة قد اتّفقوا تماماً، حتى في ما لم يعلنوا الاتفاق عليه. وليس هذا، بالطبع، من قبيل المصادفة، فهم لم يذكروا الجهة الشرقية ولو بصفتها احتمالاً واردا، خصوصا أنها تعدّ، في نظر الجميع، من أكبر مصادر الهجرة عبر التاريخ، وعدم احتفالهم بهذه الحقيقة، ولا بما ي | |
|