"نحن نرى رؤوسا قد أينعت ...."
"إنّي أرى رؤوسا قد أينعت و حان وقت قطافها" هي قولة الحجاج الثّقفيّ في خطبة تولّيه العراق. أمّا المعز الفاطمي فيوم غزا مصر سئل عن نسبه و حسبه فاستلّ سيفه و قال "هذا نسبي" ثمّ نثر دراهم الذّهب فوق الرؤوس و قال هذا "حسبي". و على دربهما سار كل حكّام العرب . فحكموا شعوبا من مرتشين و خائفين و الباقون قطفت رؤوسهم بمختلف طرق القطف. و حافظ كلّ الحكام العرب على هذه السنّة بكلّ أمانة.
كما التزم الطّرف المقابل بسنّته بل و أبدع فيها فواصل المرتشون ارتشاءهم حتى بلغ بهم الأمر تأليه حاكمهم. فهذا أحد يقول عنه :
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
و كأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ وكأنّما أنصاركَ الانصارُ
و آخر يقول :
أتته الخلافة منقادةً إليه تجرر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره لزلزلت الأرض زلزالها
و ثالث يقول :
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقف كأنك في جفن الرَّدى وهو نائم
تمـر بك الأبطال كَلْمَى هزيمـةً ووجهك وضاحٌ، وثغرُكَ باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى إلى قول قومٍ أنت بالغيب عالم
و هاته جماعة أصبغت على حاكمها أوصافا لا تكون حتى لنبيّ فهو القائد و هو الملهم و هو الخيار الأوحد للمستقبل و هو الذي لا ينطق عن الهوى و هو الذي يصلح كلامه لكل مكان و زمان بلا حاجة للإجتهاد.
كما واصل الخائفون خنوعهم بل و أذهلوا حتى حكّامهم بما بلغوا فيه من الإبداع فسكتوا عن كل حيف و ظلم و انتهاك لإنسانيّتهم و غمسوا لقمتهم في الذلّ و الهوان هانئين قانعين. و بلغ الأمر ببعضهم أن يحشدوا الحشود ليقتلوا بقلب ثقيل و لكن بكل التزام حفيد رسولهم و هو في الجمع القليل بل و يتسابقون لإحتزاز رأسه. و حسدوا المرتشين حتى اتّخذوهم أمثلة عليا يتدارسونها و يتفقّهون فيها ويولونها عظيم الإكبار و الإجلال و يصبغون عليها هالات الأدب و العلم و الحكمة. العام تلو العام و القرن تلو القرن.
بينما استمرّت الثلّة القليلة المعزولة في تقديم رؤوسها للقطف. فهذا عالم و قاض قال كلمة حقّ في وجه حاكم جائر فضرب رأسه. و ذاك شاعر أو أديب تجرأّ على معارضة الحاكم فقلعت أضافره و غيّب وراء الشّمس. و آخر إعتنق فكرا لا يشرّعه الحاكم فذاق من ويلات التّعذيب ما يذهل مرضعة عما أرضعت. و تلكم جماعة ظنّت أن الخلاص في الرّجعة إلى الأصل فجمعت في مصيدة و بعث إليها طير أبابيل، إلخ.
و لا مجال للإطالة فبوسع المهتمّين الرّجوع إلى كتب التّاريخ و الأدب و إلى سجلّات حقوق الإنسان ليثقلوا قلبهم و يتجرعوا كأس الحزن و الغمّ حتى الثّمالة.
و اليوم انقلب العقد و استبدلت الأدوار و الشعوب هي من تقول لحكامها "نحن نرى رؤوسا قد أينعت و حان وقت قطافها" لكنها لا تعرض إلا سيف القطع و لا تعرض ذهب الرشوة.
وليد الشريف