الطقس عاصف في هذا اليوم من أيام شهر آذار/مارس، المدينة ساكنة بعض الشيء
كأنها في حداد غير معلن، وانا وحيدة على الشرفة الزجاجية في المقهى البحري 'بالاس
كافي' أمامي على الطاولة فنجان كابوتشينو. إنه نهار إجازتي، نهار للراحة
على ما يُقال، مع أن لا أحد يستريح حقا، إذ قد يُقال، او يُظّن أحياناً أن
واحدنا يستريح، غير أن الأمر لا يعدو كونه رجاء يُعبّر عنه على هذا النحو
من التمنّي، ونعلم يقيناً أن لحظة الراحة لن تأتي، وانها غير موجودة حتى،
وليست أكثر من محط كلام نردّدهُ عندما يغدو تعبنا فائقاً.
على الرغم من
أنني متعبة، بل في غاية التعب، لكنني فرحة مع ذلك، بالحراك الثوري في بعض
العالم العربي، حتى أن فرحتي تؤلمني أحياناً، وأشبه بطيف وجع في الصدر.
هكذا يكون حالي في الغالب، في الفرح وفي الحزن. الآن فرحة، إذ يبلغ انخطافي بمشهد العالم المتغيّر حولي، حدّ إيلامي من هذه الفرحة.
العالم يغلي، تونس، ليبيا، مصر، اليمن.. في ولادات ميمونة، وأخرى متعثرّة لكن
واعدة بل أكيدة ما دام هو المخاض، يخضّ رحم هذه الأرض، والمولودة الحرية آتية لامحالة.
من جهتي ليس بوسعي إلآ القليل القليل، كاحتشاد
المشاعرالمتعاطفة مثلاً، والدموع التي لا أعرف لها سبباً، والإنتظار وقتل
الوقت متطلعة الى البحر، وعندما يهبط الليل أتابع الأخبار على التلفزيون،
وأكتب قصائد حتى، لاعلاقة لها بالثورة بتاتاً، لكنني أخترع لها علاقة،
وأصدّقها. أما الآن، فهذا نهار إجازتي، نهار للراحة ويجدر أن أرتاح.
أصلب جذعي على الكرسي وأرخي برأسي على مسنده العالي في محاولتي الى اقصى الصفاء
الممكن، من دون أن أتخلى عن عادتي في الحملقة بالبحر، موجاته تتقلّب
مغناجة وشهية. أرقب الموجات العالية جداً، كما أرقب الموجات غير العالية
جداً، وأطلق على كل منها اسم ثورة ما: هذه مصرية، وهذه تونسية، وتلك
ليبية.. وهكذا، بينما في الحقيقة يأسرني المّد الخفر، الشارد بعض الشيء،
المتشنّج على الشاطىء، المُطرق الحيّي، الراغي بزبده حتى أقدام الكراسي
والطاولات. الموجات العالية جداً، وغير العالية جداً وتنضح بسرّ الماء،
أُلبسها أنا لبوس الشعوب وثوراتها، ولا يعود التصنيف بين العالية جداً وغير
العالية جداً هو نفسه الشائع. ولكن ينبغي لأفكاري أن تتوقف عند هذا الحد،
لأن اليوم في الأصل هو يوم إجازتي، وأحتاج الى الراحة.
على غير رغبة منيّ تشرد أفكاري في ما يُحاك في الظلام، ضد ثورة مصر، وثورة تونس ،الى
سيناريوهات عمّا يجري في اليمن، وعن القتل الوفير لشعب ليبيا العظيم.
ناس تقتلهم أنظمتهم، تقصفهم بالصواريخ والطائرات. على كل حال ليس بمقدوري على
صعيد شخصي سوى رسم سيناريوهات متخيلة وإلقاء نظرة على هؤلاء من بعيد.أراقب
مقتلة الناس من على شاشة التلفزيون متظاهرة أمامهم بأنني ميتة، وبما أنني
ميتة (اقول في سرّي) فليس بمقدوري، بالتالي نجدة أحد.
لا أزال على مقعدي
في المقهى البحري وأمامي فنجان الكابوتشينو، هو الثاني، وقد اشتّد عصف
الهواء. المكان حيث أنا ليس مثالياً للتفكير في الثورات، وان كان ثمة من
يعتبره مثالياً. مشاعري مزدحمة، صاخبة، لكنني في يوم إجازتي، وعليّ أن
أرتاح ولا أفكرّ بشيء. قد أفكرّ بشيء أكتبه في زاويتي في الصحيفة، ولكن ليس
في الوقت الحالي. أفكرّ بهذا الشأن لاحقاً وأسوّي كل الأمور العالقة في
صدري كغصّات ضخمة. لكن كيف يسعني مدّ يد المساعدة؟ تواصل العصف سريعاً
غاضباً، والبرودة جعلت الهواء ريشياً.
بيروت أكثر مرونة وانفراجاً على
الأحداث من كافة العواصم العربية، مع ذلك أجواؤها الآن خانقة تحت وطأة
بركانها الراكد، وتشبه حانة عابقة بدخان مسموم. الناس تموت في بيوتها
وكنائسها وطرقاتها وأنا هنا أشرب الكابوتشينو . في الحقيقة مُتعبة فعلاً،
خصوصاً اليوم في نهار الإجازة اللعين هذا، وأطنان أحمال تسحق كتفيّ ورأسي
وصدري وروحي، وطعم حمضي لمعدن صديء في فمي. أنا في إجازة، وعاجزة على كل
حال عن الكتابة، وعن النطق وأحتاج رقدتي أمام جهاز التلفزيون، والى كاميرا
تجمع القتلى في مجال عدستها.
متعبة، لكنني أراهن بقوة على الحراك
الثوري، يساعدني رهاني على تسكين الشكوك حيال ما يُحاك للثورات وناسها.
أريد أن اعانقهم فرداً فرداً، من هنا من على مقعدي في جلستي البحرية، وأريد
بحقّ أن تنتابني عدوى بطولاتهم، أن تسكنني شجاعتهم.
مرتبكة لكن غير متشككة من الحال المتفجرة داخل كل من يقاتل من أجل حريته.
لم أحلم من قبل بمثل هذا التسلسل الثوري، وهو متداخل الآن ويومض هنا وهناك كما لو ألماس في منجم منسيّ.
لم تكن سوى الجاذبية إذن هي التي تُمسك بالثورات معاً! وقد انفرط عقدها وغمر العالم
العربي نور هذه الفوضى الخلاقة، باهرة وليست تحتاج سوى التبصّر والثبات.
أسمع
من هنا هتافاً طويلاً، وأرى الى الألوان المختلفة للأعلام المرفرفة،
ومنتبهة الى العناية التي يوليها الثوّار شعاراتهم التائقة الى الإنعتاق من
الظلم . كلما سقط مُستبّد، تنداح عن رئاتهم سحب غبار سوداء.
كل الناس غدوا، كباراً أو صغاراً، جيلاً شبابياً واحداً. لقد قلبوا كياننا البائس،
وأخرجونا الى النور لكي نرى العالم كما يجب عليه ان يكون.
مظلتي فوق رأسي وملفحي يحيط عنقي، عدت الى البيت أترنّم بأحد الشعارات الذكية وقد
رفعها احد الشباب. في الليل ارى بامتنان الى الشاشة، وأشكر السانحة التي
مكّنتني من رؤية كل هذا الجمال.