[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]للكذب مراسمه لدى الكاتب والإعلامي التونسي شكري الباصومي الذي تخيّر أن يكون أول أعماله المنشورة بمثابة الإرباك الحسيّ لكل من يقرأ تفاصيله، فالكتاب مزج بين صنوف من الكتابة تمهّر فيها الكاتب على الصور وتلاعب فيها باللغة وتفننّ في صنع نص مغاير عصيّ عن التصنيف. كما بدا منذ العتبات الأولى للكتاب إمعان الكاتب في قلب دلالات الكلمات من خلال قول الشيء بضده، في تأكيد على النظرة الساخرة التي يحملها الباصومي عن هذ العالم المقلوب المعكوس.
يقول سليم دولة في تقديمه لكتاب الإعلامي التونسي شكري الباصومي أنه احتار في تصنيف هذا الكتاب وقال أنه "ينحو نحو معانقة ما يمكن لي أن أطلق عليه "العبورية النصية" ..احترت أمام هذا الكتاب .. شعرا .. نثرا .. أدبا إشارات وتنبيهات", "فيض خاطر"، "أدب كدية "، "صيد خواطر"، "ديوان في الهجاء السياسي"، "مدونة صغرى" في المفاكهة الاجتماعية ...والكوميديا السوداء..."
والكتاب مثلما أشار إليه دولة في تقديمه يستعصي عن كل تصنيف، فهو مزيج عجيب من التصنيفات الكتابية، ويبدو أن الباصومي تقصّد أن يكون أول إصداراته خليطا من صنوف الكتابة بهدف إرباك القارئ أو استفزازه، وربما أيضا بهدف نبذ السائد والتعامل مع الكتابة الإبداعية بأسلوب إعلامي ولكن دون السقوط في مطبّات اللغة الجافة والقوالب التعبيرية المحنّطة والجاهزة. كتابة ترنو لتكون أسلوبا خاصا بصاحبها، ففيها من الشعرية الكثير ولكن الباصومي ينفي أن تكون شعرا ويقول "ومازلت أهذي وأرسل شذراتي لعلّي أقول شعرا!".
غير أن الشعر منتشر بكثافة في صفحات الكتاب وبأشكال متنوعة... "خذي عمري كلّه/ نصفه أو انقصي منه قليلا/ اصطفي منه سكون الليل.../ ونجمات الصباح وعطر المارقين.../ اقطفي ما شئت لكن.../ لا تقربي أهازيج القبيلة وغيمة.../ تفضح ما بقي فيك من كبرياء الموج ومكر الياسمين..."
والباصومي يصر على امتداد الكتاب على التخلص من سلطة التصنيفات والأجنسة ويواصل متدفقا في نصوصه ومنذ البداية يعطي إشارات واضحة لما يرمي إليه حيث يقول في فاتحته "بي.../ رغبة/ كي أنشر/ على نوافذكم/ كلماتي.../ أعذروني إن.../ تأخرت قليلا/ للنشر طقوسه.../ وحده الغسيل القذر/ لا يحتاج إلى.../ تأشيرة".
هكذا يحدد الباصومي رؤيته للأشياء منذ الصفحات الأولى، ليبرر تأخر نشر نصه الإبداعي رغم أنه يكتب منذ ربع قرن أو تزيد قليلا، فهو لم يتعجّل النشر كونه يعتقد أن للنشر طقوسه كما للكتابة تماما.
"مراسم الكذب" على ما فيه من شعرية وجمالية لغوية جمعت بين بساطة الكلمة وعمق الطرح والرؤية، ما يُخفي ألما دفينا ينهش روح الكاتب ويجرح أصابعه ليخرج حروفا تضيء ليل العذابات.. بحثٌ متعبٌ عن حرية فقدت وحقيقة تغيب خلف غيمات الوطن القابع تحت سياط الجلاّد. ويتأكد هذا في نص "حماة الوطن" حيث يقول الباصومي "ناهد هي.../ تعب الحامل... والمحمول/ بوركت حاميَ النهدين.../ حامي الهرمين/ حامي العلمين/كثر الحُماة.../ والوطن مسبيّ..."
يبحث الكاتب عن وطن مفقود وكرامة مسلوبة، "سأل حارس المقبرة/ مطمئنة/ نائمة/ راجعة إلى ربها/ راضية مرضية:/ أبتها الكرامة !/ لم تجب !/ أعاد السؤال في وحشته/ أيتها الحرية !/ لم تجب !/كلب يعوي/ هب !هب !هب".
لا يدّعي الباصومي الشعر، لكنه شاعر حقيقي في زحمة الأصوات التي تتعالى يوميا منادية بالحضور الشعري، فالمشهد الشعري العربي بات مطمع كلّ الكتَبَة مثل أرملة جميلة، وهو ليس روائيا أو قاصا ولكنه سارد جيّد يمتلكُ آليات الكتابة السردية، عارفٌ بخباياها، مُتحيّلٌ على اللغة بامتياز، يسمو بها أحيانا ويحطّ بها أحيانا أخرى على أرض بسيطة، لكأننا أمام سباح متمرّس في لجة اليمّ يروّض الأمواج ويعاندها، يسايرها ويصدّها وهو في كل هذا يغزل كتابة مغايرة تتراوح بين البساطة والجمال.
"مراسم الكذب" كتاب مربك/مؤلم بامتياز، ولعلّنا لم نتفاجأ به كما لم يفاجئ قراء الباصومي الذي تعودوا على "زخاته" الموجعة على أعمدة "الشروق" التونسية يوميّا في موعد مع النقد الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يقدمه في شكل كودميديا سوداء تجمع بين البسمة والدمعة والتي ما فتئت تعاني مقص الرقيب وتدخلات المحرر.
• مسك الختام
حين ريح "صنصر"/ هبّت،/ صاحبة الجلالة/ اهتزّت/ عانقت الجلالة/ صار اعتدالها اعتلالاَ/ رابعة... ساجدة/ راكعة... خاشعة/ تنتظر "فرمانْ"/ يقرأه همام:/ يا سادتي:/ هذا بيان الختانْ!
هكذا ختم الباصومي كتابه الأول الذي صدر عن دار نقوش عربية في تونس في طبعة أولى.
صالح سويسي ـ تونس
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]